التشابك في خيوط الأزمة الاقتصادية والنقدية اللبنانية قد يفوق بتعقيداته تداخل خيوط بيت العنكبوت. لكن، خلافاً للبيت الأخير الذي يُستعمل كفخ فطري منظم بطريقة تتفوّق بدقتها على أعمال أعظم الحرفيين في العالم، فإنّ خيوط الأزمة اللبنانية عبارة عن فخ عشوائي.
من حيث لا يدري أحد، برز "خيط" دينٍ على الدولة بقيمة 16.5 مليار دولار وتقاطع مع سندات الدين بالعملة الأجنبية "يوروبوندز" بقيمة تتجاوز 45 مليار دولار. وكي تزداد الأمور تعقيداً، شبكت وزارة المالية خيطاً جديداً، مدّعيةً عدم قانونية هذا الدين. وهو ما أضاف مزيداً من الخيوط على هذه الشبكة، إذ برزت تحذيراتٌ جديدة من إمكانية رفض حَمَلَة "اليوروبوندز" إعادة الهيكلة، والاتجاه إلى مقاضاة الدولة اللبنانية على ما يمكن أن يعتبرونه تزويراً، كون هذا الدين لم يكن معترفاً به في أوقات الاكتتاب.
دين المركزي غير قانوني
فيما أكد وزير المالية ياسين جابر، في غير مناسبة، أن الدين الذي أضافه مصرف لبنان هو مجرد وسيلة لتحسين دفاتر المصرف، وبأن الاستدانة يجب أن تصدر بموجب قانون من مجلس النواب، متسائلا عن مبررات ترك هذه المبالغ لفترة طويلة خارج الدفاتر، أكد وزير الاقتصاد عامر البساط أن الموضوع يعالج، مضيفاً ان هناك لجنة مختصة تعمل على حل هذه الإشكالية بين الوزارة ومصرف لبنان. ولم يتوسع الوزير البساط أكثر في إعطاء المعلومات، منعا لعرقلة عمل "اللجنة"، واستغلال البعض لهذه المفاوضات للاصطياد في الماء العكر.
التطمينات الرسمية أن المواضيع الإشكالية تعالَج لا تُلغي الكثير من التساؤلات المحقّة، ومن أبرزها:
- ما هو تأثير هذا الدين على استدامة الدين العام إن جرى الاعتراف به رسمياً، ولا سيّما في ظلّ الاتجاه نحو الاقتراض المكثّف من صندوق النقد الدولي والجهات الدولية لإعادة الإعمار؟
- ما هي مخاطر إضافة دينٍ لم يكن مُعلناً عنه سابقاً على قضية "اليوروبوندز"؟ وهل يمكن أن يؤدّي ذلك إلى رفض حَمَلَة السندات إعادة الهيكلة، والاتجاه نحو مقاضاة الدولة اللبنانية أمام محاكم نيويورك، المدرجة كصاحبة اختصاص في العقود، بتهمة التزوير وإخفاء المعلومات؟ فلو كان هذا الدين ظاهراً، لما اكتتب المستثمرون بتلك السندات، نظراً إلى أنّ العبء على الدولة سيكون أكبر، وإمكانية تخلّفها عن السداد ستكون أعلى.
لا تأثير
أكد وزير العمل السابق كميل أبو سليمان، المتابع لملف اليوروبوندز، والذي سبق أن طرح فكرة شراء الدولة لهذه السندات عند انخفاض سعرها إلى أقل من سبعة سنتات للدولار، أنّ الاعتراف بهذا الدين لا يشكّل خطراً على العلاقة مع حَمَلَة سندات "اليوروبوندز"، ولا يسبّب مشكلة في عملية إعادة الهيكلة المزمع إتمامُها، وذلك لسببين:
الأول: يتعلق بسقوط التحجج بمثل هذا المبرر بفعل مرور الزمن، إذ إنّ آخر تعاقد على الاكتتاب بهذه السندات يعود إلى عام 2017، أي قبل نحو تسع سنوات.
الثاني: يرتبط بتخلّف الدولة عن السداد بشكلٍ غير منظّم ومفاجئ منذ نحو خمس سنوات، وبالتالي فإن وجود دين ثان لن يؤثّر على شيء.
واعتبر الوزير أبو سليمان، في مداخلة خلال لقاءٍ اقتصادي، أنّ هذا المبلغ نتج عن قيام مصرف لبنان بتسليم الدولة دولاراتٍ بدل الليرات على سعر الصرف القديم، وقد صرفت الدولة هذه المبالغ في العديد من الحاجات وعلى مراحل. وبرأي أبو سليمان، فإنّه حتى لو رفضت الدولة الاعتراف بهذا المبلغ، نظراً لكونه قرضاً من دون قانون، فإنّها ستتحمّله بطريقةٍ أخرى من خلال رسملة مصرف لبنان. فالمادة 113 من قانون النقد والتسليف تُلزم الدولة برسملة المصرف المركزي في حال كانت نتيجة إحدى السنوات عجزاً، فإنها تُغطّى الخسارة من الاحتياطي العام. وإذا كان هذا الاحتياط غير موجود أو غير كاف تُغطّى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة.
لعبة محاسبية
في المقابل، يرى الخبير المصرفي نقولا شيخاني أنّ إضافة هذا الدين والتمسّك به يحمل فخّاً محاسبياً كبيراً لن يصبّ في مصلحة المودعين. ويستذكر شيخاني أنّ صندوق النقد الدولي سبق أن سأل الحاكم السابق رياض سلامة عن هذا الدين، بحضور وزير المالية الأسبق غازي وزني، فأجاب بأنّه عبارة عن Cash Collateral، أي "ضمان نقدي جانبي"، وهو مبلغ من المال يُقدَّم كضمان لالتزام مالي أو لقرض.
وبحسب ما أوضح شيخاني، فإنّ الدولة كانت، مقابل هذا المبلغ، تضع في مصرف لبنان نحو 21 ألف مليار ليرة في حسابها رقم 36، ما يعني أنّ هذا المبلغ لم ينشأ عن عملية قطعٍ أو صرافة. إلّا أنّ ما يجري اليوم، وفق رأيه، هو محاولة تحويل هذا الدين إلى عملية صرفٍ، مع التذرّع بالمادة 113 من قانون النقد والتسليف لتسديده.
أما الخطة الجديدة التي يعمل عليها كلٌّ من حاكم مصرف لبنان ووزارة المالية، فتقوم على شطب نحو 30 مليار دولار من الودائع من جهة المطلوبات، بهدف خلق توازنٍ في ميزانية المصرف المركزي وإظهارها من دون خسائر، ولاسيما مع وجود دين على الدولة بقيمة 16.5 مليار دولار من جهة الاصول، وهو ما يعتبره شيخاني "خطِراً للغاية". وهذا التوازن سيكون نظرياً على الورق فقط ولن يمكّن المودعين من الاستحصال على حقوقهم.
لا مصير هذا الدين ولا مصير اليوروبوندز واضحان لغاية الآن. فالاجتماع الأخير الذي عقده الوفد اللبناني الرسمي، إضافة إلى ممثلين عن مؤسستي غوتلت ولازار، مع حملة السندات، على هامش اجتماعات الخريف لصندوق النقد والبنك الدوليين لم يصدر عنه نتيجة ملموسة. فالاجتماع تمحور حول شرح الجانب اللبناني للظروف التي مر بها لبنان، والصعوبات التي واجهته ويواجهها. كما عرض الوفد للخطوات الايجابية على المستوى الإصلاحي خصوصاً المالي والنقدي، مؤكداً الى أن لبنان سيدخل في مفاوضات مع الأطراف حاملي السندات، عندما تصبح لديه جهوزية مالية قادرة على المباشرة بالإيفاء بالتزاماته.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
