في صباح الثالث عشر من تشرين الأول عام 2025 استيقظ العالم على خبرٍ غير اعتيادي من صنعاء، عبد الملك الحوثي، زعيم جماعة أنصار الله، أعلن تعليق جميع الهجمات ضد إسرائيل والسفن التجارية في البحر الأحمر بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة. القرار، رغم أنه مشروط بالتزام إسرائيل بالهدنة، أحدث فوراً صدى واسعاً في الأوساط الاقتصادية والسياسية الدولية لما يحمله من انعكاسات محتملة على أمن الملاحة العالمية واستقرار الأسواق الإقليمية.

اندلعت التوترات في البحر الأحمر منذ عام 2023. تجنّبت السفن المنطقة بسبب هجمات الحوثيين في اليمن المدعومين من إيران، والذين يسعون إلى تعطيل حركة الشحن العالمية احتجاجاً على الحرب في غزة. ثم توسعت تدريجياً لتشمل السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، بالسفن المرتبطة بالولايات المتحدة وبريطانيا، وصولاً إلى استهداف السفن التي يملكها أو يديرها أطراف لها علاقات مباشرة وغير مباشرة بإسرائيل.

وتحوّل مضيق باب المندب إلى نقطة اشتعال تهدّد شريان التجارة بين الشرق والغرب لأهميته الاستراتيجية الحيوية، فهو يربط المحيط الهندي والبحر العربي جنوباً بالبحر الأبيض المتوسط شمالاً عبر قناة السويس " أقصر الطرق"، ما جعله محوراً حيوياً لنقل الطاقة والسلع الأساسية بين آسيا وأوروبا. فالسفن التجارية التي كانت تمرّ يومياً بدأت تتجه نحو طرق أطول وأكثر كلفة عبر رأس الرجاء الصالح، وبالتالي ارتفعت أقساط التأمين ضد مخاطر الحرب من نحو 0.3٪ إلى ما يقارب 1٪ من قيمة السفينة المؤمّن عليها وفقاً لعدة مصادر في قطاع الشحن البحري خصوصاً بعد استهداف سفينتي Magic Seas وEternity C. وهذا يترجم بتكاليف إضافية لكل رحلة، وارتفاع الأسعار عالميا.

القرار الحوثي الأخير، إذا ما تم تنفيذه فعلاً واستمر دون خروقات، قد يعيد التوازن إلى واحد من أكثر الممرات المائية حساسية في العالم. فالشركات الملاحية وشركات التأمين العالمية ستراقب التطورات بحذر. بالتوازي، بدأت تتحدث عن احتمال خفض أقساط التأمين تدريجياً، ما سيخفف من الضغط على أسعار الشحن ويمنح الاقتصاد العالمي متنفساً بعد شهور من التوتر البحري.

الأثر الأبرز قد ينعكس على الاقتصادات الإقليمية، ولا سيّما في القرن الأفريقي والخليج ومصر. فالقاهرة التي تعتمد على إيرادات قناة السويس كأحد أعمدة دخلها القومي، شهدت تراجعاً مؤلماً في عائداتها خلال ذروة الأزمة ومع انحسار التهديدات، قد تعود حركة الملاحة إلى طبيعتها تدريجياً، ما يعيد الزخم الاقتصادي للممر. أما في الخليج العربي، فإن أي استقرار في البحر الأحمر يعني انسياباً أفضل لصادرات النفط والغاز نحو أوروبا وآسيا، وبالتالي تعزيز الإيرادات في ميزانيات الدول المصدّرة، كما أن الأسواق المالية في دبي والرياض قد تستفيد من انحسار المخاطر الجيوسياسية التي كانت تضغط على ثقة المستثمرين.

عالمياً، سيُنظر إلى هذه الخطوة على أنها إشارة تهدئة نادرة في منطقة اعتادت الاضطرابات. فالتجارة الدولية التي تمرّ عبر البحر الأحمر تمثل نحو 12٪ من إجمالي التجارة العالمية، حسب تقرير صدر عن صندوق النقد الدولي في أوائل الـ2024 ، انخفضت حركة التجارة عبر قناة السويس بنسبة 50٪ مقارنةً بالعام 2023، ما أدى إلى اضطراب سلاسل الإمداد وتشويه مؤشرات الاقتصاد الكلي الأساسية، وأي عودة للأمن في هذا الممر ستنعكس إيجاباً على أسعار الطاقة والغذاء والشحن، فشركات النقل البحري الكبرى مثل “ميرسك” و”هاباغ لويد” كانت قد تكبّدت خسائر هائلة بسبب إعادة توجيه الأساطيل وتراجع كفاءة سلاسل التوريد، أما الآن، فقد تجد فرصة لإعادة التوازن إلى خطوطها التشغيلية.

لكن التفاؤل لا يخلو من التحفظ. فالتاريخ القريب يُظهر أن أي هدوء في البحر الأحمر يبقى هشّاً ما لم يُترجَم تفاهماتٍ سياسيةً شاملة. فالحوثيون ربطوا استمرار تعليق الهجمات بالتزام إسرائيل بالهدنة في غزة، ما يجعل مصير القرار مرتبطاً مباشرة بتطورات الميدان الفلسطيني، وأي انهيار للهدنة قد يعيد التصعيد إلى نقطة الصفر، ويقلب المزاج الإيجابي في الأسواق العالمية، بغض النظر عن مستقبل المفاوضات الأميركية الإيرانية مع عودة العقوبات الأممية.

رغم ذلك، تبدو الرسالة السياسية في قرار الحوثيين واضحة، فهي تسعى لإظهار نفسها طرفاً قادراً على التأثير في المعادلات الإقليمية والدولية، لا مجرد فصيل محلي منغلق. وفي هذه الرسالة إصرارٌ على أنّ تجاهلهم لم يعد ممكناً في معادلة الأمن البحري والاقتصاد العالمي.

هذا التحول في الخطاب والسلوك يعكس رغبة الحوثيين في تعزيز موقعهم السياسي في أي تسوية قادمة في اليمن، مستفيدين من الاهتمام الدولي بالملاحة والتجارة العالمية رغم تعليق نسبة كبيرة منها.

في المحصّلة، قد يشكّل هذا القرار اختباراً حقيقياً لقدرة المنطقة على الانتقال من منطق الصراع إلى منطق المصالح، كمبادرة "الحزام والطريق" بدلاً من التدخلات العسكرية. فهدوء البحر الأحمر لا يعني فقط أمان السفن، بل أيضاً إحياء الأمل في أن تتراجع لغة القوة أمام لغة الاقتصاد، وأن تتحول الجغرافيا التي كانت ساحة صراع إلى مساحة عبور نحو الاستقرار. وإذا ما ثبتت التهدئة واستقرت خطوط الملاحة، فقد يكون تشرين الأول عام 2025 بداية مرحلة جديدة، لا في البحر الأحمر فحسب، بل في ميزان الاقتصاد الإقليمي والعالمي الذي بات قوة ناعمة تغلب أحيانا السلاح.

* كاتبة ومنتجة لبنانيّة.