توقف العمل جزئياً في الحكومة الفدرالية الأميركية منذ الأول من هذا الشهر. ولم تظهر بعد أي بادرة تشير إلى قرب العودة إلى العمل الطبيعي بعد. هذا التوقف عن العمل بات على أعتاب الأسبوع الرابع، وهو يعرّي أزمة سياسية واقتصادية عميقة الجذور من الانقسامات الحزبية التاريخية في الولايات المتحدة.
السياق التاريخي
توقُّفُ العمل في الحكومة الفدرالية، وهو ما يُعرَف بالـ "الإغلاق الجزئي الحكومي"، بات سمة متكررة مثيرة للجدل للمأزق المالي في الكونغرس حين يعجز عن إقرار مشاريع قوانين الاعتمادات المالية في الوقت المحدد. قبل رئاسة رونالد ريغان التي بدأت في 1981، كان الإغلاق قصير الأجل عموماً. لكنه بدأ يطول ابتداء من رئاسة بيل كلينتون التي بدأت في 1993. وكان الإغلاق الأطول ذلك الذي حدث في رئاسة دونالد ترامب الأولى واستمر 35 يوماً من كانون الأول 2018 إلى كانون الثاني 2019. الإغلاق الحالي هو الإغلاق الحادي عشر في التاريخ الحديث للولايات المتحدة والثالث تحت إدارة الرئيس ترامب، وسببه الأساسي هو النزاع على تمويل الرعاية الصحية، وخصوصاً تمديد إعانات قانون الرعاية بأسعار معقولة [المعروف باسم أوباما كير] وبرامج المساعدة الطبية للفقراء، أب الطبابة على نفقة الحكومة الفدرالية، والتي يدعمها الديمقراطيون بشدة ويسعى الجمهوريون للحد منها. وقد فشل الكونغرس في الوصول إلى اتفاق اتفاق في الوقت المناسب الجمود التشريعي المستمر بسبب القاعدة التي تفرض على مجلس الشيوخ إقرار الاعتمادات بأغلبية موصوفة تبلغ 60 صوتاً من أصل مئة، وهذا ما حال دونه الانقسام السياسي الحاد.
السياق السياسي
يكشف الإغلاق الحكومي عن تجذّر الشرخ الحزبي العميق في واشنطن. تبنى الرئيس ترامب والجمهوريون في الكونغرس، بقيادة رئيس مجلس النواب مايك جونسون، موقفاً متشدداً. رفضوا التفاوض على تمويل الرعاية الصحية حتى يتخلى الديمقراطيون عن مطالبهم بتمديد الإعانات وتغطية برامج المساعدة الطبية للفقراء، فيما يصر الديمقراطيون على وجوب عودة العمل الحكومي إلى طبيعته أولاً، مطالبين بالحفاظ على شبكات الأمان الاجتماعي هذه. يكشف هذا المأزق عن معركة أيديولوجية كبيرة محورُها الدور المستقبلي لبرامج الحكومة الفدرالية في الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية.
بالنسبة للجمهوريين، يمثل الإغلاق مخاطرة ورِهَاناً سياسياً محسوباً. يرونه وسيلةً لدفع أجندة تهدف إلى تقليل الإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية وإعادة تشكيل الميزانية الفدرالية وفقاً لأولويات المحافظين. ومع ذلك، فإنه يحمل أيضاً مخاطر انتخابية مع تركيز الاهتمام العام على المشاق الاقتصادية التي يعاني منها العاملون الفدراليون والمواطنون المتأثرون بتخفيضات الخدمات الحكومية. ويعبّر بعض القادة الجمهوريين عن قلق من رد فعل عنيف قبل الانتخابات النصفية والمحلية المقبلة، إذ إن الإغلاق الطويل يضعف تاريخياً الدعم الانتخابي للحزب الذي يعتبره الناخبون مسؤولاً عن تعطيل عمل الحكومة.
من ناحية أخرى، يحفّز الديمقراطيون ناخبيهم سياسياً لتصوير الإغلاق أزمةً مصطنعة سببُها تعنُّتُ الجمهوريين. ويستخدمون الإغلاق لتسليط الضوء على قضايا عدم المساواة الاقتصادية وحماية برامج الرعاية الصحية الأساسية، بهدف حشد قواعدهم. ومع ذلك، هناك أيضاً خطر أن يؤدي الإغلاق المطول إلى استنفاد صبر الجمهور وإحباط الناخبين، خصوصاً إذا صُنِّف الديمقراطيون في خانة غير القادرين على التفاوض على إنهائه أو إذا أصبحت الاضطرابات في الحياة اليومية شديدة.
وبالتالي، يضخم الإغلاق الاستقطاب الحزبي، ما يقلّل من الحوافز للتوافق الحزبي ويؤدي إلى مزيد من تآكل الثقة السياسية. وقد أثار الإغلاق الحكومي نقاشات حادة أحياناً بين الجناحين المتشدد والمعتدل في كل من الحزبين. فالمتشددون يريدون الاستمرار في اعتناق المواقف القصوى فيما يريد المعتدلون اعتماد الواقعية السياسية
الوقع الاقتصادي
على المدى القصير، تسبب الإغلاق في إجبارية تسريح أكثر من 600,000 موظّف فدرالي وإعطاء إجازات قسرية لعشرات الآلاف الآخرين، بما في ذلك الموظفون الأساسيون في خدمات الصحة والزراعة والمحاربين القدامى. وبسبب غياب الاعتمادات المالية تعطل معظم الخدمات العامة. كما أن القطاع الخاص، ولا سيما المقاولون والشركات المعتمدة على التمويل الحكومي، يعاني أيضاً من عدم اليقين والضغوط الاقتصادية.
من المرجَّح أن تشمل الآثار الاقتصادية المتوسطة المدى انخفاض معنويات الموظفين والقدرة على الاحتفاظ بهم في القوى العاملة الفدرالية، والتأخير في الاستثمارات المتعلقة بالحكومة وتقديم البرامج الاجتماعية، وإضعاف ثقة المستهلكين والشركات. بدأ الإغلاق بالتأثير على نمو الناتج المحلي الإجمالي، ما يزيد من خطر تباطؤ النمو الاقتصادي أو انكماشه إذا استمر الجمود.
على المدى الطويل، يهدد الإغلاق الحكومي المتكرر المصداقية المالية للولايات المتحدة، ما يؤثر على الأسواق وثقة المستثمرين محلياً وعالمياً. وهو يقوّض قدرة الحكومة الفدرالية على تنفيذ السياسات بكفاءة، وإدارة الأزمات، والحفاظ على عمليات مستقرة. قد تردع الأزمات المالية المتكررة الاستثمار، وتعقد التخطيط الاقتصادي، وتؤجّج التوتر الاجتماعي المرتبط بخلل الحكومة.
يتجاوز هذا الإغلاق الحكومي مجرد مأزق مالي؛ إنه مظهر صارخ للاستقطاب السياسي المتجذر الذي يهدد الاستقرارَين السياسي والاقتصادي. وله عواقب متعددة الأوجه، من تعطيل الخدمات العامة والعمالة الفدرالية، وهز الثقة في الاقتصاد، وتعميق الانقسامات الحزبية. يمثّل للجمهوريين مقامرة عالية المخاطر لإعادة تشكيل الأولويات الفدرالية في مواجهة الإحباط العام المتزايد، بينما يستفيد الديمقراطيون من الأزمة للدفاع عن مكاسب الرعاية الاجتماعية ولكنهم يخاطرون بالإنهاك السياسي.
وما لم يتحقق حل وسط دائم بين الحزبين قريباً، ستستمر التكاليف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإغلاق في التصاعد، ما يمثل تحديات عميقة لإدارة الرئيس ترامب والكونغرس في استعادة فاعلية الحكومة والثقة العامة.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]