لم تكن الحرب العالمية الثانية مجرّد صراع على الأرض والسماء والمحيطات، بل كانت أيضاً حرباً سريّة تُخاض في الظلال، حيث المعلومة المشفّرة الدقيقة قد تساوي مئات الدبابات والطائرات.
وسط هذا الصراع ولدت آلة "إينيغما"، الجهاز النازي الذي أرعب العالم وأربك الحلفاء بقدراته العجيبة على تشفير الرسائل. كان الألمان على يقين أن أي رسالة تمرّ عبر هذه الآلة لا يمكن أن يُفكّ تشفيرها من قِبل أحد، فالشيفرة تتغيّر يومياً وبآلاف الاحتمالات، وهذا ما جعلها فعلاً تبدو في نظر قادة برلين عصيّة على الاختراق.
لم تكن "إينيغما" مجرد آلة ميكانيكية، بل تحفة هندسية معقّدة مؤلفة من دواليب كهربائية متشابكة تُوَلّد ملايين الاحتمالات لحلّ الرسائل العسكرية والأوامر السريّة وتحرّكات الغواصات والأساطيل وغيرها... كلها كانت تمرّ عبر هذه التحفة المعدنية الصغيرة، التي تحوّلت بعد ذلك إلى أساس الشبكة الاستخباراتية النازيّة. بالنسبة لهتلر وقادته، كانت هذه الآلة بمثابة الدرع الذي يحمي أسرار "الرايخ الثالث" من أي اختراق.
لكن التاريخ لم يرحم "الإنغما"، ففي مكان بعيد عن ساحات القتال، كانت هناك عقول لا تقلّ شراسة عن المدافع، والبداية كانت في بولندا، حيث تمكّن ثلاثة علماء في علم الرياضيّات من فهم أساسيّات عمل هذه الآلة المعقّدة والمتشابكة، قبل أن ينتقل بعدها التحدّي إلى بريطانيا ويُفتح باب الحرب السريّة من أوسع أبوابه.
في أروقة "بلتشلي بارك"، القصر الريفي الذي يبعد نحو 80 كلم عن لندن، والذي تحوّل إلى مركز استخبارات ضخم، كان "آلان تورينغ" وفريقه يعملون بصمتٍ محموم، لا يسمع بهم العالم... بينما هم يحاولون إنقاذه.
ابتكر "تورينغ" جهازاً يُعرف باسم "بومب"، وهو عبارة عن آلة ضخمة تعمل على محاكاة "الإنغما" لاختبار ملايين الاحتمالات في وقت قياسي.
شيئاً فشيئاً بدأت الستارة تنسدل، وأصبحت الرسائل الألمانية التي كانت تبدو كألغاز لا تُفك، تُقرأ أمام الحلفاء كما لو أنها مكتوبة بالحبر السرّي.
هذا الإنجاز غيّر فعلاً مسار الحرب، فبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية حصلتا على معلومات دقيقة عن تحرّكات الغوّاصات النازية في المحيط الأطلسي، وأمكنهما على توجيه ضربات دقيقة ساهمت في قلب الموازين.
كُسِرَ سِحر "الإنغما"، لكن قصتها لم تمُت، فهي لم تعد مجرّد آلة تشفير، بل رمزاً لمعركة عقول لا تقل أهميّة عن معارك الجيوش. لقد أكّد الحلفاء أنَّ نجاحهم في فك الشيفرة اختصر الحرب الأوروبية بما لا يقل عن سنتين وأنقذ ملايين الأرواح.
اليوم، تقف "إنغما" خلف زجاج المتاحف، وقد تحوّلت هذه الآلة من أداة رعب إلى آلة تُذَكِّر العالم بأن القوّة لا تكمن فقط في المدافع والدبابات ولا الطائرات، بل في تلك العقول الهادئة التي تستطيع تحويل ألغاز معقّدة إلى كلمات مكشوفة لتكتب التاريخ من جديد.
وما هو أبعد من الحرب، فإن إرث "الإنغما" تجاوز حدود المعارك العسكرية ليصل إلى صميم حياتنا المعاصرة، فالمحاولات التي قام بها "تورينغ" وزملاؤه لتطوير أجهزة قادرة على معالجة العمليات الحسابيّة المعقّدة وضعت اللبنة الأولى لعلم الحَوْسبة الحديثة.
فمن قلب الصراع ووسط أصوات الانفجارات، وُلدت الأفكار التي ألهمت لاحقاً ثورة الحواسيب والذكاء الاصطناعي، لتتحوّل "إنغما" من رمز للتشفير النازي، إلى شرارة أَطلقت أحد أهم التحوّلات التكنولوجيّة في تاريخ البشرية.