لم تعد الرياضة بمختلف ألعابها مجرّد وسيلة تسلية يتابعها محبّوها ويمارسها هواتها في أوقات الفراغ كما كانت في الماضي البعيد أو حدثاً نوعيّاً في محطّات معيّنة يشغل الملايين من حول العالم في الماضي القريب، بل تحوّلت في عصرنا الحاليّ إلى عالم احترافيّ يشغل الكرة الأرضيّة بكاملها بمختلف مجالاته لتتخطّى ميزانيّات بعض ألعابها واتّحادتها ميزانيّات دول بكاملها وتكون بعض أحداثها الأبرز عالميّاً
لكنّ الرياضة منذ نشأتها كهواية في بداياتها وكاحتراف مطلق في أيّامنا الحاليّة تمحور جوهرها على ما يعرف بالروح الرياضيّة التّي وضع شرعتها في الألعاب الأولمبيّة مؤسّسها بيار دو كوبرتان في عام 1894 من خلال العلم الأولمبيّ باللون الأبيض والّذي يحمل خمس حلقات بخمسة ألوان مختلفة وترمز إلى القارّات الخمس كرسالة سلام ومحبّة تجمع في الرياضة بين مختلف دول العالم .
ولذلك، كانت أسس مختلف الألعاب الرياضيّة تتمحور حول الـ"Fair Play" (اللعب النظيف) التي تطوّرت بموازات تطوّر الرياضة وقوانينها لتتحوّل من التحلّي بالقيم الأخلاقيّة الّتي يتمثّل بها الرياضيّون إلى عرف يتّبعه الرياضيّون في العديد من ألعابها لتتحوّل مع مرور الوقت إلى ثوابت بدت كأنّها أصبحت ملزمة في مبارياتها.
وقد أقامت الأمم المتّحدة في 19 أيّار/مايو 2025 الاحتفال العالميّ الأوّل بيوم اللعب النظيف، وهو مناسبة تهدف إلى تعزيز ممارسة الرياضة بروح الصداقة والتضامن والتسامح والشمول ونبذ التمييز. وتعرّف الأمم المتّحدة يوم اللعب النظيف بالقول:"يعزّز اللعب النظيف الاحترام المتبادل بين الرياضيّين، ويعلّمنا تقدير الآخرين واحترامهم".
وقد أصبحت مباريات كرة السلّة تعرف اليوم حالات من الـ"Fair Play" الّتي أصبحت أقوى من قوانين اللعبة، إذ إنّ الفريق الفائز مثلاً ينهي المباراة قبل وقت من نهايتها بوضع الكرة على الأرض والتوجّه لإلقاء التحيّة على الفريق الآخر.
كذلك في كرة القدم، فإنّ العديد من اللاعبين يوقفون الجري بالكرة أو يفرضون التوقّف من دون العودة إلى الحكم في حال ظهر لهم لاعب من الفريق الخصم مصاباً على أرض الملعب. كما أنّ العديد من الحالات الأخرى تظهر كم تطوّرت أيضاً الرياضة من ناحية الروح الرياضيّة واللعب النظيف. لكنّ تلك الأمور الّتي تحوّلت إلى عرف فرضته العادة تحوّلت أحياناً إلى نقمة في حال عدم تطبيقها وسط استهجان جماهيريّ فرض على طواقم حكّام المباريات أن تتقبّلها ولو أنّها غير ملزمة قانوناً.
ولهذا، فإنّ تلك الحالات في الرياضات الفرديّة تحوّلت نعمتها في حال عدم الالتزام إلى نقمة كبيرة وإلى حالة من الجدل حيث لا مجال للاحتكام إلى القانون كما هو الحال اليوم مع مشهدين لافتين في مباريات بطولة أميركا المفتوحة للتنس والّتي أعادت إلى الواجهة الإعلاميّة إلزاميّة قوننة بعض مبادئ الـ"Fair Play".
فالحادثة اللافتة الأولى تمثّلت باعتراض عنيف جدّاً للّاعب الروسيّ دانيل ميدفيديف على قرار الحكم إعادة الإرسال الأول للاعب الفرنسيّ بنجامن بونزي لدخول مصوّر عن طريق الخطأ إلى جانب أرض الملعب. فقد اللاعب الروسيّ السيطرة على أعصابه، إذ إنّه اعتبر أنّ لا قانون يفرض إعادة الكرة متّهماً الحكم برغبته في إنهاء المباراة باكراً، ليحطّم لاحقاً مضربه وتتحوّل الحادثة إلى مواجهة بين الجمهور الحاضر والنجم الروسيّ الّذي تلقّى غرامة ماليّة تخطّت الـ40 ألف دولار أميركيّ.
تلك الحالة تبعتها حالة أخطر منها بعد ساعات قليلة إذ أنّ نجمة التنس اللاتفيّة يلينا أوستابينكو اتّهمت منافستها الأميركيّة تايلور تاونسند بعدم الاعتذار لها عن كرة لامست الشبكة العليا فتغيّر مسارها. فالعرف يفرض على اللاعبة الاعتذار وهذا ما لم تفعله اللاعبة الأميركيّة لتنفجر اللاعبة اللاتفيّة غضباً على اللاعبة الأميركيّة أمام جمهورها، متّهمة إيّاها عند نهاية المباراة بقلّة الذوق، رافضة مصافحتها. وأتت تلك الحادثة الّتي لم تكن أسبابها عنصريّة من قبل اللاعبة اللاتفيّة ليطرح السؤال: هل يجب فرض إلزاميّة بعض أخلاقيّات اللعبة على اللاعبين لعدم السقوط في تجارب وحالات تضرب أخلاقيّات اللعبة ومتابعيها؟
فالحالات الّتي شهدتها بطولة أميركا المفتوحة في الساعات الأخيرة هي إضاءة على مئات الحالات الّتي تشهدها الملاعب الرياضيّة في العالم يوميّاً. فهل فرض الـ"Fair Play" في الرياضة يجب أن يكون إلزاميّاً أو يبقى عرفاً على الرياضيّين التقيّد به كما لو كان قانوناً كما هي الحال من العديد من الأعراف في الحياة اليوميّة الّتي نعيشها؟ والدستور اللبنانيّ هو الشاهد الأوّل على أنّ الأعراف تعلو أحياناً كثيرة على القوانين.