ننشر في ما يأتي الفصل العاشر من كتاب "لبنان بين فدرالية الشعب وفدرالية الزعماء" للدكتور نمر فريحة، الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء الصادر عن دار سائر المشرق، 2023. هذا الفصل يركّز على لبنان وديمقراطيته.
أ- فصل السلطات
فصل السلطات مؤشّر على شفافية الحكم وانتظامه، ويكون هذا الفصل واضحاً في النصوص في نظام ديمقراطي تتكامل فيه السلطات، ولا تتداخل، أي لا يحقّ للسياسي أن يتدخّل في شؤون القضاء، أو أن يطلب تنفيذ طلب ما. كما لا يحقّ للقاضي أن يتدخّل في عمل المشرّع، ولا يحقّ للسلطة الإجرائية الهيمنة على السلطتين القضائية والتشريعية. وهذا ما سُمّي بالإنكليزية (Checks and Balances).
أما في النظام غير الديمقراطي، تتداخل السلطات بعضها ببعض، ولبنان يقدّم نموذجًا عن هذه الحالة، بالرغم من أنّ الدستور ينصّ على الفصل بين السلطات.
السبب؟
يكمن في الثقافة السياسية، والمقصود بها طريقة تطبيق السلطة الحاكمة للدستور والقوانين، وأساليب تعاملها مع المؤسّسات، وطريقة تعامل أفرادها مع بعضهم ومع المواطنين. فعلى سبيل المثال، عندما يذهب نائب إلى مؤسسة حكومية ليتوسّط لأحد أنصاره لا يحترم القانون، ويعمل على إزالة التهمة بحقّه، أو أي جنحة ارتكبها، يكون كخصم في السلطة التشريعية يتدخّل في شأن السلطة القضائية، ويمنعها من تطبيق القانون. فلو حصل هذا الأمر في دولة تحترم فصل السلطات فعلاً، يؤدّي تدخّل النائب إلى عزله. بينما في لبنان تتردّد الضرائب عن أبناء المتسلّط كلّما ساهم في زيادة حذف المخالفات، وحجب الضرائب عن حساب مؤسّسات الدولة.
قدّمنا مثلاً بسيطاً لإظهار كيفية تدخُّل ممثّل لسلطة في سلطة أخرى. إضافة إلى ذلك، فإن النائب والوزير عندنا يرى نفسه أعلى من القانون، ويعتبر مجرّد مثوله أمام قاضٍ، ولو كشاهد، إهانة شخصية و"تقليلاً" من عظمته! وقد أثبت الوزراء والنواب ذلك خصوصاً بعد انفجار المرفأ عام 2020. فعندما يقبل نظام سياسي بهذه الممارسة، لا يمكن تصنيفه سوى ضمن الأنظمة الإقطاعية الشخصانية القديمة التي لا تزال موجودة في الدول المتخلّفة، وبغض النظر عن النصوص الدستورية التي هي مجرّد حبر على ورق.
إن الأنظمة السياسية الحديثة هي التي تفصل بين السلطات فعلياً في النص وفي الممارسة. وهذا غير معمول به في لبنان، إذ يشغل المشرّع منصباً في السلطة التنفيذية كوزير، فيجمع بين السلطتين في هذه الحالة. كما نجد القضاء تحت هيمنة السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويخضع لأهواء أعضائهما. وقد تخلّصت الدول المتطورة من هكذا ممارسات. وإذا قارنّا بين هذين النظامين: نظام يمارس فصل السلطات، ونظام يدّعي ذلك زوراً، يظهر الفرق كبيراً بين من يعتبر نفسه متحكماً بمصير الناس، ومن يعتبر نفسه مسؤولاً عن مؤسسة تحافظ على حقوق الناس.
ب- ممارسة الديمقراطية
ينص الدستور اللبناني على أن نظام الحكم في لبنان "ديمقراطي". «لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية…» (المادة -ج- من مقدمة الدستور)، و«الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة، يمارسها عبر المؤسسات الدستورية» (المادة -د- من مقدمة الدستور). تدّعي الطبقة الحاكمة هذا الأمر أيضاً في خطاباتها ومقابلاتها الإعلامية، لكنها لا تطبّق نصوص الدستور الأخرى التي تجعل من هاتين المادتين فاعِلتين ومؤثرتَين في الحياة السياسية واتخاذ القرار.
للتذكير فقط، إن تعبير ديمقراطية هو إغريقي يعني حكم الشعب، أي أن السلطة بيد الشعب يمارسها بواسطة من ينتخبهم كممثّلين له في البرلمان وغيره من مؤسسات الدولة. إذاً يكون دور من ينتخبونه إيصال صوتهم وتحقيق أهدافهم في مرحلة صنع القرار، وليس ليتزعّمهم ويحوّلهم إلى رعيّة صغيرة تابعة له. وتقوم الديمقراطية على ثلاثة مبادئ أساسية، هي: المساواة، والحرية، والعدالة. وعندما يُنتهك أحدها لا تعود ديمقراطية مطلقاً.
تم في لبنان خلط مفهوم الديمقراطية بمفهوم آخر وهو مفهوم "الاتفاق أو التفاهم"، فأصبحت «الديمقراطية التوافقية». فعلى ماذا يتوافق ممثلو الشعب اللبناني؟ على تقاسم المراكز والحصص المالية؟ أو على حذف مبدأ أو أكثر من الديمقراطية كأن يمارسوا نصف عدالة وربع حرية ولا مساواة؟ أو أن هذه الديمقراطية التوافقية تنطلق من القول المأثور «الظلم في السوية عدل في الرعية»؟ وما علاقة ديمقراطيتنا هذه بالديمقراطية الحقيقية التي يكون فيها الشعب هو صاحب القرار، حتى يستطيع مساءلة أي مسؤول وعزله وسجنه إذا كان مرتكباً. لم يسجّل تاريخنا السياسي منذ الاستقلال حتى اليوم مساءلة مرتكب وعقابه. فكيف نستطيع الدفاع عن مثل هذه الديمقراطية الورقية؟
أما الباحثة الأميركية "ليلي ميو» التي زارت لبنان وقامت ببحث ميداني في مطلع السبعينيات عن أحداث 1958، استنتجت أن نظام الحكم في لبنان هو ديمقراطي طائفي، أو الديمقراطية الطائفية (Confessional Democracy) لأنّ الطوائف تتقاسم في ما بينها المواقع والحصص بسلام زمن السلم، وتتنازعها في الأزمات ووقت الحرب. ولو كانت الديمقراطية اللبنانية ديمقراطية حقيقية لما كانت هذه الباحثة الأجنبية (المحايدة) أعطتها صفة الطائفية لآنه لا يوجد مفهوم كهذا في علم السياسة. وبالرغم من هذا، فعند جمع الطائفية بالديمقراطية لا يكون هناك منتج مقبول لهذين العنصرين، والتجربة اللبنانية الطويلة خير دليل على ذلك.
نحن إذا ندّعي ما ليس لدينا، وما لا نعيشه، لأنّ الديمقراطية هي طريقة حياة أيضاً في العالم السياسي، وكيفية ممارسة الحقوق والواجبات، ودور كلّ مسؤول في الحكومة (السلطات الثلاث) وتطبيق مبادئ الديمقراطية على الشعب ومن قبل الشعب. وربما هذا ما ينقص معظم اللبنانيين في فهمهم للديمقراطية وممارستها. فالمواطن يجب أن يحيا في الديمقراطية، والمسؤول يسهر على تأمين عناصرها له. وإلا حُذِف هذا التعبير من قاموسنا السياسي.
"الزعامة" ومفهومها للسلطة
الزعامة في لبنان لا تعترف ضمناً بأي سلطة أكانت ديمقراطية أو غير ديمقراطية، بل تنظر إليها وكأنها وجدت لتخدمها. وهذه القناعة متأتية من نظرة الزعيم إلى الشخص الذي يشغل الموقع وليس إلى المؤسسة بذاتها؛ فنظرته إلى أي شخص في موقع مسؤول هي دونيّة اعتبار أنّ فلاناً هو من خلفية اجتماعية أقلّ من تلك التي أتى منها الزعيم، أو أنّ الزعيم قد عيّنه في موقعه، فلذلك عليه إطاعته أو على الأقل عدم التجرّؤ على رفض طلبه.
عندما يتم خرق مبدأ فصل السلطات، فلا داعي لتعداد نتائج ذلك على صعيد عمل المؤسسات التي يفترض أنها تعمل ضمن الأطر الديمقراطية، تماماً كمحاكمة ذلك القائد أمام محكمة عسكرية لخسارته معركة كبيرة. فحين سئل عن خسارة المعركة أجاب: "عدّة أسباب كانت وراء ذلك، أوّلها نفاد الذخيرة". وقبل أن يقول "ثانيها" أوقفه القاضي عن الكلام لأن هذا السبب الأول كافٍ للخسارة.
ولا بأس من الرجوع إلى الديمقراطية وتطبيقها بنظر أهمّ مرجع فكري في القرن العشرين «روبرت دال» (R. Dahl) الفيلسوف السياسي الأميركي الذي يعتبر أنّ هناك نوعين من الأنظمة السياسية التي طُبقت الديمقراطية تاريخياً: المدينة الدولة قديماً، والدولة-الأمة الحديثة… في الأولى كانت ديمقراطية مباشرة، أما في الثانية فهي ديمقراطية تمثيلية (Dahl, 1982, p4 &9). ونحن لا ننتمي لأي منهما.
مهما قال أعضاء المنظومة السياسية عن الديمقراطية في لبنان، فكلامهم يقع ضمن الثرثرة الخطابية لتجميل صورة اهتراء النظام القائم، وما يجري في لبنان لا يُقدَّم أي مؤشّر على وجود الديمقراطية فيه كنظام وممارسة، وكشعب وحكّام.
ج- الواقع الذي يعيشه الشعب
نعيش كلبنانيين في دوّامة منذ إنشاء هذا الوطن، لكن لا نقبل بحلٍّ كامل ومتكامل لوضعنا المأزوم الذي يهيئ لنا مفاجآت دائمة كل عشرين أو ثلاثين سنة.
لقد أعاد آباؤنا وأجدادنا إنتاج جيلنا وأجيال من سبقنا كأنهم كانوا محدودي العلم والمعرفة والرؤية، وجلب هذا الأمر الكثير من المآسي إذ تبنّى كل جيل موروثات الجيل الذي سبقه بما فيها من ارتجالية، وعدم المسؤولية، والكراهية. فعمل كثيرون على التربُّص بمن اعتبروه خصماً لينتقموا منه في الوقت المناسب، حتى ولو استعانوا بغرباء عن البلد والمجتمع. وهذا دليل ساطع على أن أجيالنا راوحت وتراوح مكانها التاريخي من دون تغيير مؤثّر في عقليتنا وطريقة تفكيرنا. إن شعباً مثلنا، تُطرَح علامات استفهام حول مكتسباته الفكرية والسياسية بعد عقود من الزمن. أحياناً ينشأ بلد ينمو ويتطور في نصف قرن مثل سنغافورة، فكيف بنا وقد مرّت علينا آلاف السنين وما زلنا نعيش في القرون الوسطى بعقليتنا وقناعاتنا بما يرتبط ببعضها كأفراد مجتمع، أو بما يرتبط ببلدنا كجغرافيا جامعة لنا ولمن يحكمنا؟
فهل نحن نطبّق ما قاله يوماً «مارك توين» (Mark Twain): إنّ «كل شخصٍ يتحدّث عن السياسة، لكن لا أحد يفهمها».
وهل ما زلنا نعيش في عصر «توين»، حيث نحكي سياسة، ونتّخذ مواقف متطرّفة انطلاقًا من السياسة، في الوقت الذي لا نفقه سوى سطحها، ولا نحسن ممارستها؟
وهل نريد «التحضّر» سياسياً كباقي شعوب المجتمعات الراقية، أو نفضّل أن نبقى مشلولي الإرادة، ومحدودي الفكر والرؤية والطموح، ومتخلّين عن حقّنا في صنع القرار والسيادة لزعماء نصّبناهم آلهة علينا وعلى مستقبل أجيالنا؟
وهل هي حالة صحّية أن ينقلب دور الشعب من فاعل إلى متلقٍّ عليه خصوصاً عندما يكون الفعل ضد مصلحة المجتمع ككلّ؟
هذه التساؤلات ليست مجرّد رأي شخصي، بل توحي باستنتاج لما حدث خلال فترة زمنية امتدت منذ الاحتلال العثماني حتى اليوم. فلو كنّا قد تخطّينا تلك الحالة، لكنا اليوم مزوّدين بكمٍّ كبير من المعرفة السياسية، ومهارات التحليل الفكري العليا لنستطيع اكتشاف الأمور على حقيقتها، ومعالجتها، وبناء مواقف حولها كي تكون منسجمة مع ما نتطلع إليه من شفافية في الممارسة السياسية في بلدنا. وبالتالي لكنّا تجنّبنا كثيرًا من الأزمات السياسية التي نعيش، ليس لخلل في القوانين بل بسبب تعمُّدنا عدم تنفيذها.
كذلك هناك واقع مؤلم في المشهد السياسي وهو نتيجة للغة المتعلّمة لًزعماء لا يضاهونها علماً ومعرفة، لكنّها تأتمر بتوجُّهاتهم وتستميت في الدفاع عنهم بتسخير قدراتها الفكرية وطاقاتها العلمية. فما الذي يدفع هذه الفئة إلى التبعية لو لم يكن لها مصالح شخصية ضيقة تسعى لتحقيقها من خلال الالتحاق بالزعيم أو بالحزب؟