تَدخُل الحرب في أوكرانيا عامها الرابع وسط مشهد أوروبي متقلّب ومعادلات دولية متبدّلة. ما اعتقدت موسكو أنها ستكون عملية عسكرية محدودة بدأتها في شباط عام 2022 وسمّتها "عملية عسكرية خاصة"، تحوّلت إلى نزاع طويل الأمد أعاد تشكيل بُنية الأمن الأوروبي والعالمي على حدّ سواء. ومع استمرار المعارك على جبهات الشرق والجنوب، تتزايد التساؤلات عن مستقبل أوروبا وموقعها في لعبة القوى الكبرى، وتأثير هذا الصراع على المنطقة العربية والعالم بأسره.
مع مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الحرب، تبدو أوروبا مرهقة أكثر من أي وقت مضى. فألمانيا، التي كانت ركيزة الاعتدال الأوروبي تجاه روسيا، وجدت نفسها في موقع القيادة العسكريّة ضمن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وإن كان ذلك تحت المظلة الأميركية. أما فرنسا، فتكافح لإنشاء استقلالية دفاعية أوروبية ضمن مفهوم "لنصنع السلاح معاً"، في وقت تظل فيه أوروبا الشرقية أكثر تشدّداً وتشبّثاً بالبقاء تحت حماية حلف شمال الأطلسي، وهي ترفع شعار "نريد الأسلحة الآن" فالواقع الجيوسياسي يفرض أولويات مختلفة على دول أوروبا الشرقية التي تفضل الحماية الأميركية المباشرة على الاستقلالية الأوروبية غير المؤكدة.
تتجلّى التبعية الأوكرانية للدعم العسكري الخارجي تأثيراً مباشراً على قراراتها السياسية والعسكرية. لمعالجة هذا الأمر، أطلق الاتحاد الأوروبي البرنامج الأوروبي للصناعة الدفاعية (EDIP) لتنفيذ استراتيجية دفاع أوروبية. ويهدف البرنامج إلى دمج أوكرانيا في المنظومة الصناعية الدفاعية الأوروبية، وذلك بتخصيص 300 مليون يورو من أصل ميزانية إجمالية قدرها 1.5 مليار يورو لتأسيس شراكات صناعية دفاعية مع الشركات الأوكرانية. ويهدف أيضاً إلى تهيئة أوكرانيا للاندماج المستقبلي ضمن القاعدة التكنولوجية الصناعية الدفاعية الأوروبية (EDTIB)، بما يسمح لها ببناء قاعدة صناعية دفاعية وطنية مستقلة عن المساعدات.
وأصبح مصير أوكرانيا اليوم يتأرجح بين هذا البرنامج وبين الاستراتيجية الروسية الطويلة الأمد التي ترى أن الحرب ضدها ليست صراعاً محلياً، بل حدث محوري يُعيد تشكيل ميزان القوى العالمي ويسرّع من بروز ما تسميه بـ "الأغلبية العالمية غير الغربية"، باعتبارها صراعاً بين الهيمنة الغربية الراسخة ورغبة الدول غير الغربية في السيادة الكاملة. وهذا ما كان واضحاً في مقال سيرغي كاراغانوف، وهو أحد المنظرين الاستراتيجيين الروس، والمنظّر الآخر ألكسندر دوغين، وهو أحد مستشاري الرئيس فلاديمير بوان، والذي يعتبره الغرب مفكّراً فاشياً، وفي خطابات فلاديمير بوتين ووثائق السياسة الخارجية الروسية.
فموسكو التي فشلت في تحقيق نصرٍ سريع كما كان متوقعا، نجحت في امتصاص الصدمة الأولى للعقوبات الغربيّة، وأعادت هيكلة اقتصادها باتجاه الاكتفاء الذاتي، معتمدة على التحالف مع عدد من دول العالم الجنوبي والتعاون مع الدول غير الغربية. وبالرغم من الخسائر البشريّة والماديّة الكبيرة، وتكيُّفها في تطوير أسلحة وتقليديّة ومطيَّرات، وتعاون دول "صديقة " كتركيا في تسليح أوكرانيا، استطاعت روسيا الحفاظ على زخم ميداني نسبي في بعض الجبهات، فيما فشل الغرب في تحقيق انتصار حاسم عبر دعم "كييف" بالسلاح والمساعدات. والتحدّي الأكبر بالنسبة لموسكو لا يزال مفتوحاً فهل تستطيع روسيا تحمّل كلفة حرب مفتوحة تُستنزَف مواردها وتُقلَّص دائرة نفوذها السياسي والاقتصادي مع استمرار وزيادة العقوبات؟
اقتصادياً، شكّلت الحرب ضربة موجعة لأوروبا، بارتفاع أسعار الطاقة وتباطؤ النمو وتضخّم متواصل رغم السياسات النقديّة المتشدّدة. أوروبا التي كانت تعتمد على الغاز الروسي بنسبة تقارب ٤٠%، أعادت تموضعها نحو الطاقة الأميركيّة والشرق أوسطيّة، ما أعاد رسم خريطة النفوذ في قطاع الطاقة العالمي مع تراجع الطلب الأوروبي نتيجة التحول نحو الطاقة المتجددة.
أما بالنسبة لواشنطن، فقد أصبحت أوكرانيا اختباراً لاستمرار وثبات ودوام القيادة الأميركيّة للعالم الغربي. فبينما تُصرّ الإدارة الأميركية على "هزيمة روسيا استراتيجياً"، بدأت الأصوات الداخلية تتساءل عن جدوى إنفاق عشرات المليارات من الدولارات في حرب بلا أفق واضح. في المقابل، تركّز الولايات المتحدة أكثر فأكثر على شرق آسيا لمواجهة الصين، وهذا ما يثير قلق الأوروبيين الذين يخشون أن يُترَكوا وحدهم في الميدان إذا تراجعت الأولويّات الأميركيّة تجاه أوروبا.
يدرك الأوروبيون تماماً أن الحرب في أوكرانيا ليست مجرّد معركة جغرافية، بل صراع على مستقبل النظام الدولي. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل ستخرج أوروبا من هذه الحرب أكثر وحدةً واستقلالاً، أم أكثر ارتهاناً للولايات المتحدة؟ لا سيّما أنّ الحلفاء، خلال الحرب العالمية الثانية، ما كانوا ليحسموا القتال بتلك السرعة لولا الدعم والتدخل الأميركيين الحاسمين. ويزداد الأمر تعقيداً مع تراجع احتمالات التسوية التي تحفظ ماء الوجه، والتي سعى إليها الرئيسان ترامب وبوتين. كما يبقى السؤال مطروحاً: هل ستتسع رقعة الحرب إلى دول مجاورة أو إلى مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا؟
صحيح أن الناتو بدا أكثر تماسكاً. لكن ماذا عن الوضع الاقتصادي للدول الأعضاء؟ فبعد بدء الحرب، استجاب العديد من دول الناتو للمخاطر بزيادة ميزانياتها الدفاعية، والتزم أكبر عدد من الدول بمعيار إنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع لتعزيز القدرات العسكرية، مع أنه لأقل مما ينص عليه الاتفاق وهو 3%. لكن هذا الإنفاق المتصاعد ترافق مع زيادة في التضخم وأزمة طاقة، ما استدعى إعادة التفكير في أمن الطاقة والغذاء والبحث عن بدائل طاقة مبتكرة.
إن مستقبل الحرب يعتمد على ترسيخ قوة الناتو كتحالف وليس مجرد التقاء مصالح، لا سيما بين أميركا وأوروبا، وعلى قدرة روسيا على تحمّل الاستنزاف لتحقيق أهدافها، ومدى استعداد المجتمع الدولي لإعادة صياغة نظام عالمي جديد بعيد عن "الأحادية"، نظام متعدد الأقطاب أو نظام شمالي / جنوبي لتقويض الهيمنة الغربية وتغيير مسار النظام الدولي.
الإجابات لا تزال مفتوحة، لكن المؤكّد أن القارة العجوز دخلت مرحلة جديدة من اللايقين الجيوسياسي، وأن آثار هذه الحرب ستمتد لسنوات، ليس فقط في أوروبا، بل ربما في الشرق الأوسط أيضاً، حيث تتقاطع خطوط الطاقة والمصالح والنفوذ بين الشرق والغرب.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
