هل يستطيع المسؤولون اللبنانيون إخراج لبنان من الانهيار الاقتصادي؟ وإن أردنا أن نكون أكثر موضوعية في طرح السؤال بعيداً عن القدرات المعروفة لمكونات السلطة كل على حدة، نسأل هل يريد المسؤولون حقاً، الخروج من الانهيار؟

من حيث الشكل فإن الجواب هو النفي الحتمي. والدليل، عدم اتخاذ أي إجراء جدي وفعلي منذ 6 سنوات. ذلك على الرغم من تعاقب 4 حكومات، و مجلسين نيابيين منذ اندلاع الانهيار في خريف 2019. وعندما بدأت الحلول بالظهور أخيراً، خرجت مجزئة ومشتتة، و بفترات زمنية متباعدة، إن لم نقل بـ"التقسيط المريح".

تجّزيء القوانين ليس الحل

من بعد إقرار قانون تعديل السرية المصرفية في العام 2022 وإعادة تعديله من جديد هذا العام ليصبح متناغماً أكثر مع ضرورات الإصلاح بناء على طلب صندوق النقد، يقرّ البرلمان الخميس 31 تموز مشروع القانون المتعلق بإصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها. أو ما يعني "إعادة هيكلتها. وعلى الرغم من كون هذا القانون "جيد، بالشكل العام، ووجوده يعتبر ضرورة بسلة الإصلاحات والقوانين"، برأي وزير الاقتصاد السابق رائد خوري، "إلا أن تطبيقه مرهون بإقرار قانون الانتظام المالي - "الفجوة المالية"، الذي لم يولد بعد. وما الاستعجال بإقراره بهذا الشكل المنفرد، إلا نتيجة "إملاءات صندوق النقد الدولي، وتطبيقاً لخريطة الطريق التي رسمها"، يضيف خوري، و"هذا أمر مؤسف". ذلك أن "الحلول يجب أن تكون مُدرجة بقانون متكامل ومترابط، يتيح للمشرّعين الذي سيصوتون عليه رؤية شاملة غير مجزئة ".

وضع "العصمة" في يد المركزي

أما في المضمون، فإن ما اتُخذ ويُتخذ من إجراءات على شكل مراسيم وقوانين، وتعيين هيئات ولجان، وإعداد خطط ومشاريع، وتوقيع معاهدات واتفاقيات.. ما هي إلا استمرار لما كان؛ وإن كان بتغليف جديد حيناً، و"طنّة ورنّة" في أحيان كثيرة. فقانون إصلاح المصارف "أعاد "وضع العصمة" بيد مصرف لبنان، المتسبب الأول بالانهيار"، يقول الأستاذ المحاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية توفيق شمبور، و"هذا لا يخالف المنطق، وبديهيات الاتجاهات الدولية في معالجة الأزمات فحسب، إنما يشكل انقلاباً حتى على الممارسة التقليدية للسياسة في لبنان". فعند انهيار بنك انترا وقف رجل القانون ريمون إده في المجلس النيابي مطالبا بإقصاء مصرف لبنان عن مهمة الرقابة على المصارف، لأنه فشل بهذه المهمة فشلاً ذريعاً. فتم فصل مديرية الرقابة على المصارف عن مصرف لبنان، وتشكيل لجنة مستقلة، نسبياً، للرقابة على المصارف، عُرفت بلجنة الرقابة على المصارف.

القانون المرتقب صدوره لإعادة هيكلة المصارف، يعيد تفويض مصرف لبنان عبر الهيئة المصرفية العليا، الرقابة على المصارف، ويكرس السلطة المطلقة للحاكم بصفته رئيساً للهيئة في تقرير مصيرها. "مع العلم أن قانون النقد والتسليف نص عند التأسيس أن من يرأس الهيئة قاضياً، وليس الحاكم، يعاونه شخص منتدب من قبل الحاكم من دون اشتراط أن يكون أحد نوابه، ومفوض الحكومة"، بحسب شمبور. "ولم يصبح الحاكم رئيسا للهيئة إلا في العام 1967 مع التعديل الذي أدخله بيار إدة على القانون 28/67".

المتسبب بالانهيار لا يعالجه

بغض النظر عن أسماء الشخصيات التي تتولى المسؤوليات في المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف، فان تكليف نفس الجهة المتسببة بالانهيار بالمعالجة يعتبر "خطأ مبدئياً (faute de principe)" بحسب شمبور. "وبدلاً من تقويم الاعوجاج، والعودة إلى الأساسيات، كرس القانون عبر الهيئة المصرفية العليا وجود كل من مصرف لبنان والمصارف، وجمعيتها في كل مراكز القرار بالرقابة والمحاسبة عن كل التجاوزات التي ارتكبتها في الفترة الماضية"، من وجهة نظر شمبور. "فجمعية المصارف موجودة في لجنة الرقابة و الهيئة المصرفية العليا، والمصرفيون موجودون في المجلس المركزي ومؤسسة ضمان الودائع ومصرف الإسكان، وأصحاب المصارف متمثلين في الحكومة بـ 13 مقعداً. في المقابل يغيب المودعون أو من يمثلهم عن مراكز القرار بشأن مصيرهم. وكل ما يمكن ان يحصلوا عليه هو إمكانية تمثيلهم في لجنة التصفية". أكثر من ذلك فانه من المستبعد بحسب شمبور "محاسبة مجلس النواب المتسببين بالأزمة بشكل موضوعي، والمطالبة بإعادة الأموال المهربة، لكون جزءاً منهم استفاد من إخراج أمواله أو الحصول على ودائعه".

الفصل في حسابات المودعين

مجموعة كبيرة من التعديلات أدخلتها اللجنة الفرعية المنبثقة من المال والموازنة على قانون إصلاح المصارف وإعادة تنظيمها. و"لعل تعديل المادة 5 كان الأكثر إثارة للريبة"، بحسب عضو رابطة المودعين دينا أبو زرّو. "حيث جرى فصل الهيئة المصرفية العليا إلى شقين، الأول معني بالرقابة، والثاني باتخاذ القرار، مع ضمان تمتع الحاكم باليد العليا على كل القرارات، ولاسيما المتعلقة بتقرير مصير المصارف". وهذا ما يكرس "تضارب المصالح"، بحسب ابو زرّو، "ويهدد بإمكانية التعطيل".

التعديل الإيجابي الوحيد الذي أُدخل على القانون بناء على توصيات صندوق النقد الدولي، برأي أبو زرّو كان إعادة تعريف "المودِع الواحد". فخلافاً للطرح الحكومي الذي يقضي بدمج حسابات الشخص نفسه في جميع المصارف واعتبارها حساباً واحداً عند توزيع الخسائر، أقرت اللجنة مبدأ استقلالية الحسابات، بحيث يُعامل كل حساب على حدة، حتى وإن كان يعود لنفس المودِع.

صحيح أن معظم أنظمة ضمان الودائع حول العالم تعتمد مبدأ فصل حسابات المودعين في المصارف عن بعضها البعض لخفض المخاطر المرتبطة بتعثر كل مصرف على حدة، إنما حالة التعثر الجماعية في لبنان تعطي لمثل هذا القرار بعض الأبعاد السلبية، برأي الرئيس التنفيذي لشركة Advisory and Business Company علاء غانم. "وقد يفتح هذا القرار الباب امام تحايل بعض كبار المودعين ويضع عبئاً مالياً هائلاً على مؤسسة ضمان الودائع العاجزة أصلاً، كما قد ينتج عنه تفاوتاً كبيراً بين المودعين الذين يملكون نفس المبلغ في مصرف واحد وأكثر من مصرف. والأخطر من ذلك أنه قد يخلق وهماً بالحماية من دون وجود قدرة مالية حقيقية على الالتزام بها، مما يؤدي إلى المزيد من الإحباط وانهيار الثقة في المستقبل، وخصوصاً إن لم يتم وضع وتطبيق آليات التنفيذ بثقة وصرامة.

خلافاً لما انتهجته الدول الجادة في معالجة أزماتها النقدية، كأيسلندا مثلاً، يستمر لبنان باجترار الحلول أملاً بتذوق طعمات جديدة وطازجة، فتأتي النتيجة مخيبة للآمال. والأيام المقبلة ستكون خير دليل على برهنة عدم صوابية ما يطرح من خطط واقتراحات. إنما بعد فوات الأوان.