يعيش النظام المالي العالمي مرحلة انتقال جذريّة مع دخول العملات الرقمية إلى الأسواق المالية وازدياد حصّتها في الأسواق وزيادة الاستثمارات فيها، حتى أن عملة "بيتكوين" أصبحت من الملاذات الآمنة التي يلجأ إليها المستثمرون خلال الأزمات كما الحال الآن. هذا الأمر دفع بالمصارف المركزية الأساسية في العالم التي رفضت طويلاً فكرة العملات الرقمية لأن تعمل جدّيّاً على إصدار عملات رقمية خاصة بها وهو ما يُعرف بالـ CBDC.
من المعروف أن العملات الرقمية لاقت قبولاً واسعاً بين الجمهور إذ ارتفع مثلاً سعر "بيتكوين" من 0.003 دولار في العام 2010 إلى أكثر من 110 آلاف دولار حالياً. في المقابل منع العديد من المصارف المركزية المصارفَ التجارية من التعامل بهذه العملة نظراً لما تحويه من مخاطر عالية للمصارف التجارية أو للمصارف المركزية التي تخشى فقدان سيادتها المالية وتهديد احتياطاتها المالية، أو للنظام المالي العالمي مع مدفوعات عابرة للحدود بالعملة الرقمية أصبحت تفوق المدفوعات بالعملات التقليدية.
دوافع عديدة
هذا الواقع دفع العديد من المصارف المركزية وعلى رأسها المصرف المركزي الصيني، والمصرف المركزي الأوروبي، والاحتياطي الفدرالي الأميركي إلى إطلاق مشاريع عملات رقمية خاصة بها. وتكمن دوافع هذا القرار بـ:
أولاً – معالجة أوجه القصور والمخاطر الكامنة في أنظمة الدفع الحالية إذ أدّى انخفاض النقد وظهور العملات الرقمية المُستقرّة الصادرة عن القطاع الخاص إلى خلق فجوة في تدفُّق الأموال. وبالتالي، ستُشكّل العملات الرقمية الخاصة بالمصارف المركزية نظام تسوية فوريّاً خالياً من المخاطر. أضف إلى ذلك ارتفاع نسبة الشمول المالي المرتقب مع إسناد محفظة مالية مجّانية (برعاية من المصرف المركزي) لكل مواطن، ناهيك عن المرونة والأمان في المدفوعات على الصعيد الوطني وحتى العالمي.
ثانياً – ستؤمّن هذه العملات الرقمية الخاصة بالمصارف المركزية أدوات جديدة للسياسات النقدية لتنفيذها ومراقبة استقرار النقد. فمثلاً يُمكن لأي مصرف مركزي تعديل الفائدة بشكل شبه فوري، ما يعني تخلّيه بشكل واضح عن المصارف التجارية التي تُعتبر أداة رئيسية لنقل السياسات النقدية للمصرف المركزي. إلا أنها في الوقت نفسه قد تتسبّب بأزمة مالية من ناحية سحب المودعين أموالهم من المصارف التجارية (ما يحرمها من قدرة الإقراض)، ووضعها في مَحافظ إن كانت هناك فائدة وأمان لمَحافظ العملات الرقمية للمصارف المركزية.
ثالثاً – استخدام النظام المالي في الحروب الجيوسياسية يفرض تحوُّلاً جذرياً من قبل المصارف المركزية في إدارة المجال المالي والنقدي في المجال الدولي. ويرى بعض الدول أن استخدام الولايات المُتحدة للدولار الأميركي وتغلغله في الاقتصاد العالمي يعطيان الغرب أفضلية مُطلقة في فرض العقوبات والمراقبة المالية. من هذا المُنطلق، كان هذا السبب حافزاً مُهماً لمصارف مركزية أساسية في العالم للتوجه نحو مشاريع عملة رقمية خاصة بها. أكثر من ذلك، يرى بعض الحكومات في هذه الخطوة إمكانية التخلّص (أو تقليل) من النفوذ الأميركي عليها إذ تُشكل هذه الخطوة حلاً فعّالاً لتخفيف هيمنة الدولار الأميركي خصوصاً في التجارة الدولية والتحاويل الدولية.
رابعاً – بالطبع، بما أن العملة الرقمية تتطلّب تدخلاً إنسانياً أقلّ، من المفروض أن تنخفض كلفة المعاملات التجارية والتحاويل الدولية ونظام تسوية المعاملات وغيرها. وبالتالي في حال وجود عملة رقمية موحّدة ستُسهّل حكماً التخلّص من الدولرة وخفض الكلفة وتقليل النفوذ الأميركي.
خامساً – واحدة من أهمّ النتائج لعملة رقمية خاصة بالمصارف المركزية هي الرقابة على العمليات والبيانات للأفراد والشركات إذ من المُمكن للمصرف المركزي واستطراداً للحكومة الولوج إلى أدقّ تفاصيل المعاملات الفردية. هذا الأمر يحمل في طيّاته وجهاً مُعتماً من باب التجسّس على الحياة الخاصة للمواطنين وبالتالي يتطلّب الأمر ضوابط لمنع الانحراف وتعزيز الخصوصية.
سادساً – قدرة المصارف المركزية على برمجة هذه العملات وبالتالي تحديد أنواع المعاملات التي يُمكن القيام بها أو وضع تاريخ صلاحية للمال. وهو ما يعني سيطرة إقتصادية ومالية للدوّلة على الأموال الخاصة.
سباق بنكهة صراع جيوسياسي
مما لا شكّ فيه أن السباق بين الدول للسيطرة على النظام وفرض عملاتها الرقمية، هو سيّد الموقف. وبالتالي نلحظ ممّا صرّح به المعنيون أن هذا السباق ليس مُتجانساً وهو متفاوت بين الدول:
- لا شكّ أن الصين من أكثر الدول تقدّماً على هذا الصعيد حيث أن مشروع إطلاق الـ e-CYN (العملة الرقمية الصينية) أصبح في مراحل مُتقدّمة. ويهدف الصينيون من خلال هذا النظام إلى مرونة الدفع، والشمول المالي والسيطرة الداخلية، مدفوعين بمنافسة جيوسياسية كبيرة،على رأسها التخلص من الدولار وتسهيل عمليات طريق الحرير.
- أما أوروبا فتسعى إلى الحفاظ على سيادتها النقدية ضد العملات الرقمية المستقرة الخاصة وتعزيز نظام المدفوعات من خلال إطلاق الـ e-EUR الذي سيُساعد أيضاً في ضمان الاستقلال المالي للاتحاد الأوروبي ومواجهة هيمنة شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى. إلا أن هذا المشروع يبقى في مراحل البحث والتحضير مع العلم أن الإتحاد كان قد أعلن سابقاً عن نيته إطلاق المشروع في العام 2027.
- من جهة الولايات المتحدة الأميركية، تسعى السلطات النقدية إلى تقييم المخاطر الناتجة عن اعتماد الـ e-USD خصوصاً على المصارف التجارية وعلى مكانة الدولار على الصعيد العالمي. هذا المشروع الذي ما زال في مرحلة البحث والنقاش، يهدف إلى الحفاظ على وضع العملة الأميركية وضمان استمرارية الوضع المالي الراهن. ومقارنة بالصين والإتحاد الأوروبي، لا تزال الولايات المُتحدة الأميركية مُتأخرة في هذا المشروع.
- على صعيد الدول الأخرى، من المتوقّع أن تُصدر أكثر من 130 دولة حول العالم (مُعظمها صغيرة اقتصادياً) عملاتها الرقمية التابعة للمصارف المركزية.
ماذا عن لبنان؟
الجواب على سؤال عمّا إذا كان ينبغي لمصرف لبنان إصدار عملة رقمية، معقّد جداً، نظراً لعمق الأزمة المالية والإقتصادية التي يعيشها لبنان. فعلى الرغم من الفوائد الكثيرة لمثل هذه الخطوة (تحسين كفاءة المدفوعات وتعزيز الشمول المالي...)، إلا أن التطبيق سيكون صعباً حداً من منطلق أن العملة الرقمية لن تحلّ الأزمة الهيكلية المتمثلة في تعثّر الدولة وانهيار الثقة وتفكُّك القطاع المصرفي.
ففي ظلّ انهيار الليرة وخسارتها أكثر من 60 مرّة قيمتها ما قبل الأزمة، ستكون أي عملة رقمية مجرد نسخة رقمية عن عملة منهارة لن تجذب أحد ما دامت الثقة بالمصرف المركزي وبالقطاع المصرفي لن تعدْ. أضف إلى ذلك أن طرحها قبل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، سيؤدّي إلى هروب الودائع المُجمّدة في المصارف وهو ما يعني نهاية هذا القطاع.
على صعيد أخر، من المُستبعد أن تحظى أي عملة رقمية يُصدرها لبنان بمصداقية على الصعيد العالمي طالما لبنان موجود على اللائحة الرمادية وطالما لم يتمّ إجراء الإصلاحات المطلوبة. وبالتالي يجب النظر إلى العملة الرقمية ليس كحل سحري بل كأداة فعّالة فقط بعد إنجاز إصلاحات هيكلية شاملة.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
