كل الأطراف المعنية بالأزمة النقدية، وصلت إلى مأزق حقيقي، و"صار بدها الصرفة"، بهذه العبارة مهّد مسؤول لبناني كبير الحديث عن إمكانية ولادة قانون "الانتظام المالي" في وقت قريب. المسؤول الذي بدا متفائلاً أكثر من أي وقت مضى، لم يفتح باب الأمل على مصراعيه، بل تركه موارباً. ففي حال تأخر خروج هذا القانون من السلطة التنفيذية، يكون البلد قد دخل في "بازار" الانتخابات النيابية.

... وعندها قد تُعدِم المواقف الشعبوية للمرشحين، أي إمكانية إقرار القانون الذي يتطلب جرأة استثنائية وموقفاً حازماً لمرة واحدة ونهائية. 

بعد قرابة ست سنوات على الانهيار، جُزّء مشروع "الإصلاح المالي والاقتصادي" الكبير للحكومات الماضية إلى مشاريع أصغر. فوُلد مشروع قانون إصلاح المصارف وإعادة تنظيمها، أو ما يعني إعادة هيكلتها، المُتوقع صدورُه بقانون من المجلس النيابي قبل نهاية هذا الشهر، بحسب وعد وزير المالية ياسين جابر. وأخذ مصرف لبنان على عاتقه مسؤولية وضع ضوابط على السحوبات النقدية من المصارف التجارية بالتعميم 169. وأعاد البرلمان تعديل قانون السرية المصرفية بما يضمن شفافية التحقيقات المالية لعشر سنوات مضت. ولم يبق إلا القانون الذي اصطُلح على تسميته "الفجوة المالية". وفي "الفجوة" يكمن "لبّ المشكلة". فهذا القانون سيكون مسؤولاً عن تحديد الخسائر في القطاع المالي، وتوزيعها على الأطراف المعنية، أي: الدولة، مصرف لبنان، المصارف التجارية، والمودعين.

استعجال الحل!

كلفة المماطلة في اعتماد الحل النهائي على كل طرف من هذه الأطراف، أصبحت أكبر من التكلفة التي ستتحملها من توزيع الخسائر"، بحسب المسؤول اللبناني. للأسباب التالية:

- الدولة مقيدة وعاجزة عن الوصول إلى الأسواق المالية. ومن المستحيل تحقيق نمو اقتصادي، وجذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل ما لم تُحلّ أزمة الودائع.

- مصرف لبنان، همُّه إعادة التوازن إلى ميزانيته. وقد عبر الحاكم كريم سعيد بنفسه عن هذا الأمر خلال استضافته المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أول من أمس بقوله: "إذا بقي العجز، يمكن للمصارف التجارية مقاضاة المصرف المركزي للمطالبة ببيع أصوله. أو قد يُطلب من الدولة تغطية العجز وفق المادة 113، وهذا ما نسعى لتفاديه".

- المصارف التجارية لم تعد تحتمل المراوحة في مرحلة "الزومبي بنك" ورؤية الرساميل تتدفق خارجها. ويهمُّها أن تستعيد قدرتها على العمل المصرفي التقليدي محلياً وخارجياً، وذلك بعد تحولها منذ أكثر من ست سنوات إلى "صرّاف آلي".

- المودعون، سئموا الانتظار الطويل والحصول على فتات أموالهم بالتعاميم، ويحتاجون إلى أكثر من أي وقت مضى إلى قطاع مصرفي قوي وسليم، يثقون به على وضع أموالهم وتمويل مشاريعهم وحاجاتهم.

التوافق السياسي، أساسي

سير الامور في الطريق الصحيح، يحتاج برأي عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي د. أنيس بودياب إلى "توافق سياسي عام من كافة القوى السياسية في المجلس النيابي، والحكومة، وكافة الفرقاء والأحزاب.. للبدء بتطبيق قانون الفجوة المالية"، وهذا ما كان قد أشار إليه الحاكم صراحة خلال اللقاء في المجلس. و "من المفروض أيضاً صدور المراسيم التطبيقية سريعاٌ لهذه القوانين ووضعُها موضع التنفيذ".

العدالة في التوزيع

خلافاٌ لكل ما يُقال عن إحراز تقدم كبير في إعداد مشروع القانون، وآخرُها أقوال حاكم المركزي نفسه، تشير معلومات إلى أن المداولات مع الأطراف المعنية ما زالت تراوح في المربع الأول. "فما يجري من مداولات، ويوضع من معالجات، يفتَقد إلى العدالة في التوزيع"، بحسب خبير المخاطر المصرفية والباحث في كلية "سليمان العليان لإدارة الأعمال"، في الجامعة الأميركية، محمد فحيلي. إذ يُفترض أن يكون لكل مصرف رأسمال جاهز لامتصاص الخسائر الناتجة عن توظيفاته. وقد وضع مصرف لبنان إصبعه على الجرح في التعميم الأساسي 154 الصادر في أواخر آب 2020، الذي طلب بموجبه من المصارف زيادة رأسمالها، وتكوين سيولة بالعملة الاجنبية توازي 3 في المئة من قيمة الودائع بالدولار (اللولار). إلا ان المصارف لم تلتزم بهذا التعميم و تمسكت بكتاب موجه من رئاسة جمعية المصارف إلى مصرف لبنان ولجنة الرقابة المصارف، ترفض فيه "تغيير قواعد الاشتباك"، على حد وصف فحيلي. ذلك أن المركزي سبق له أن سمح باحتساب العقارات والأصول الثابتة وبقية الموجودات كجزء من رأس المال، من دون أن يكون يملك الجهوزية التامة لامتصاص الخسائر. كما التوظيفات المعرضة للمخاطر تمثلت في الإيداعات لدى مصرف لبنان وسندات الخزينة.

من جهة أخرى، "لا يبدو أن إلباس 57 مصرفاً نفس الحل أمرٌ منطقيٌ "، من وجهة نظر فحيلي. "فهناك مصارف نجحت خلال الفترة الماضية بتكوين جزء كبير من سيولتها وزيادة رأسمالها، وهي تتقاضى فوائد بنسبة 5 في المئة منذ العام 2023 على أموالها المودعة في المصارف الخارجية. فيما العديد من المصارف، ولاسيما الصغيرة منها عجزت عن هذا الأمر. وعندما توضع هذه المصارف في سلة الحل الواحد، كأن تُرجع 1000 دولار شهرياً لمودعيها مثلاً، يكون الحل قاسياٌ على البنك ذو السيولة الشحيحة وبمثابة "شربة ماء" على البنك ذو السيولة المرتفعة". ولتأمين العدالة للمصارف والمودعين يجب تجزئة الحل، والتعامل مع كل حالة على حدة؛ كأن يُطلب من المصارف الكبيرة والقادرة، العودة إلى خدمة الاقتصاد اللبناني، وترك قرار تحديد آلية إرجاع الأموال لعلاقتها التعاقدية مع مودعيها، مع وضع حد أدنى".

نقطة ضعف قانون الفجوة المالية فيما لو صدر بالشكل الذي يُدرس به أنه "يضع الحد الادنى لما هو ممَكّن، فيستفيد أكثر ممن يستطيع الوصول إلى الحد الاقصى"، يختم فحيلي.