مصير غامض يعيشه حملة "الأسهم التفضيلية" للمصارف اللبنانية. فهذه الفئة من "المستثمرين" تدفع اليوم من جنى عمرها، ثمن شراهة المصارف على استقطاب الرساميل قبل الانهيار. ملايين الدولارات التي وظُفت في هذه المنتجات المالية، صُّفرت عوائدُها كلّيّاً منذ نهاية 2019. والأخطر أن حصتها من إعادة الهيكلة الموعودة غير مضمونة. بمعنى أن أصحابها قد يخسرونها بالكامل.

العودة بين الفترة والاخرى إلى "الصندوق الاسود" للاقتصاد المنكوب، تكشف بعض أسرار "الرحلة الغامضة" للمصارف اللبنانية التي انطلقت في 2014، وسط المجهول. فبين هذا العام الذي "زرع" فيه المصرف المركزي "بذور" ما عرف لاحقاً بـ "الهندسات المالية"، و2019، تسابقت البنوك على استقطاب الأموال بأي ثمن، وبأكثر من شكل. واحدة من أكثر هذه الأشكال دهاء، كانت "الأسهم التفضيلية". فهذه الأداة الاستثمارية، سُوّقت كبديل عن الودائع العادية، على أنها منتج مالي "يربح حتى ولو خسر". فأتت النتيجة توقُّفَ المصارف عن توزيع أنصبة الأرباح لحامليها كلّيّاً منذ ست سنوات، واتجاه لشطبها كلها بعد إعادة الهيكلة، في حين بدأ المودعون يتقاضون جزءاً من حقوقهم.

كيف كانت تسوَّق الأسهم التفضيلية؟

عندما توجه أمين، (وهو اسم مستعار لشخصية حقيقية) في خريف 2018 لإيداع مبلغ مالي ناتج عن بيع "شقفة أرض" في فرع أحد المصارف الكبيرة، استدعاه مدير الفرع إلى مكتبه ونصحه باستثمار المبلغ بـ "الاسهم التفضيلية". التعبير الذي كان أول مرة يسمع به، أوحى بالثقة بإعطاء العميل امتيازاً على غيره من عملاء المصرف. ومن دون الدخول في التفاصيل المملّة، قال المدير بحسب ما ينقل أمين، إن "العوائد على المبلغ ستكون ثابتة وبحدود 7 % سنويا، وهي تفوق الفوائد على الودائع، حتى تلك المجمدة لمدة عام. والأهم أنها مضمونة، ويمكنك التصرف بها ساعة تشاء". فعلتِ البسمة وجهَ أمين، وصافح يد المدير بقوة، وخرج مسروراً.

تكبُّد الخسارة

البسمة سرعان ما اختفت بعد نحو عام. فمع الانهيار الاقتصادي، توقفت المصارف عن دفع أنصبة أرباح الأسهم التفضيلية. وهذا شيء طبيعي ومعروف، إنما ليس من المواطنين العاديين الذين يجهلون آلية عمل الأدوات المالية الاستثمارية. ولم تعذّب المصارف نفسها بشرحها لهم عن قصد وغاية مخفيّتَين. ومَن فضح هذا التستُّر المتعَّمد، كان مصرف لبنان نفسه، إذ أصدر في نهاية 2020 تعميماً حمل الرقم 156، معنوناً بـ "معالجة مخالفات المصارف في تسويق الأسهم التفضيلية". أضاف أن هذه الاسهم سُوِّقت لأشخاص طبيعيين (أفراد) على أساس إنها مضمونة الفوائد، دون الإفصاح لهم بوضوح عن المخاطر المترتبة. ساعد المصارف على ذلك غياب الرقابة، وعدم وجود عقاب، ولا سيّما مع عدم تعيين "لجنة العقوبات" لدى "هيئة الأسواق المالية".

مخاطر الأسهم التفضيلية

ما لم تقله المصارف، أو أقله العديد منها، أن ما يعطى على الأسهم التفضيلية، أنصبة من الأرباح التي يحققها المصرف بشكل ثابت وليس فوائد، وفي حال عدم تحقيق المصرف أرباحا، لا يستحق عليه أي مبلغ"، يقول المستشار المالي الدكتور غسان شماس. "وفي حال تصفية المصرف أو تعرضه للخسائر فإن حملة الأسهم التفضيلية هم آخر من يستردّون أموالهم. فالأولوية تعطى للمودعين بصفتهم الدائنين. فتعاد بالتسلسل الهرمي، ودائع القطاع العام أو الدولة، ومن ثم ودائع المواطنين، فالشركات، ومن بعدها البنوك الأخرى، ومن ثم مستحقات الضرائب، وفي الآخر حملة الأسهم ومنها التفضيلية. وخلافا للمساهمين العاديين، فإن حملة الأسهم التفضيلية لا يحق لهم التصويت في الجمعية العمومية للمصارف، والمساهمة في اتخاذ القرارات. وكأنهم غير موجودين. فلماذا غرّرت المصارف بالمواطنين وحفّزتهم على شراء الأسهم التفضيلية بدلاً من إيداع المبالغ كودائع؟

معرفة السبب تُبطِل العجب!

خلافا للودائع التي تمثل دينا على المصرف، تظهر الأسهم التفضيلية في الميزانية العمومية للمصرف ضمن حقوق المساهمين وليس كبند مستقل بحد ذاته. وبالتالي "لا تزيد من دين المصرف"، يقول شماس. ولا تضطره إلى رفع "ملاءة رأس المال" (Capital Adequacy)، أو زيادة قدرته على الوفاء بالتزاماته المالية.

ما الحل؟

مصرف لبنان فرض في التعميم 156 على المصارف التي لم تسدد نسب الأرباح عن العام 2019 وما يليه العائدة للأسهم التفضيلية أن "تدفع فائدة لهؤلاء العملاء بنسبة توازي النسبة المتفق عليها معهم". ولكنه سمح في المقابل للمصارف بالتهرب من دفع المستحقات من خلال اشتراطه أمرين:

- الاول، أن تكون طريقة التسويق مضللة، وهذا يحتمل التأويل.

- الثانية، في حال عجز المصارف عن الدفع، يتوجب عليها تكوين مؤونة خاصة توازي قيمتها ثلاثة أضعاف مجموع الأرباح غير المدفوعة. أو تكوين احتياطي لدى مصرف لبنان دون أي فائدة.

لغاية اليوم لم تدفع المصارف "أي دولار" لحملة الاسهم، ولم يُعرف على وجه الدقة مدى التزامها بتعميم المركزي. وعليه "على حملة الأسهم بكل مصرف على حدة، تشكيل قوة ضغط على مصرف لبنان، والمطالبة بالحصول على كرسي في مجلس ادارة المصرف للمشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة به بصفتهم معنيين بشكل كبير"، برأي د. غسان شماس. فما يحصل أن مجالس الادارة تجتمع وتتخذ القرار بالتمديد لحملة الأسهم التفضيلية من دون محاججة أو اهتمام من أحد". وعلى حملة الاسهم التفضيلية المطالبة أيضا بحسب شماس بـ "تحويل الأسهم التفضيلية إلى أسهم عادية، يمكن أن تعوّض عليهم جزءاً من الخسائر في حال تحسن وضع المصرف، وتتيح لهم المشاركة في الجمعية العمومية واتخاذ القرارات".

المواطنون الذين تسابقوا على الاستثمار بـ الأسهم التفضيلية، "يأكلون أكواعهم ندامة"، والمصارف "تضحك في عبها"، والدولة "آخر همها". مشهدية مأساوية تلخص واقع اللبنانيين وعلاقاتهم مع المؤسسات، ولا سيّما بعد الانهيار.