ما شهدناه على مدى يومين من النقل التلفزيوني المباشر لوقائع جلسات مساءلة حكومة الرئيس نوّاف سلام أمام البرلمان أمر طبيعي ومعتاد. فما تخلل هذه الجلسات من مشادّات كلامية بين النواب، ينتهي دائماً بزجر "الأستاذ"، ومحاولة الموالاة تسليط الضوء على الإيجابيات، وإبراز المعارضين للعيوب، قد رأيناه سابقًا في كل ما سبق من اجتماعات. لكن ما لم نرَه كانت المحاسبة الرقمية، بالمعنى الحرفي للرقم، وليس التكنولوجي وتعزيز الانتقاد أو الثناء النظري بالوقائع الحسية، ليس لتقوية الموقف فحسب، إنما لإضاءة الطريق أمام الحكومة ووزرائها.

ما لم يفعله النواب، قامت به مبادرة "سياسة الغد" بالتزامن مع عقد جلسات المساءلة، إذ نشرت تقريراً مفصلاً عن النتائج المحقَّقة في المئة يوم الأولى من عمر هذه الحكومة، معزَّزاً بالجداول والرسوم البيانية. وقارنت النتائج المحقَّقة في الفترة الزمنية نفسها مع الحكومة السابقة. وكان للجانب الاقتصادي حصة كبيرة من هذا التقرير.

بطء في الإصلاحات الهيكلية

على مستوى الإصلاحات الهيكلية العامة، بيّن التقرير أن هذه الحكومة كانت بطيئة إذ لم يتم لغاية اليوم إلا إنجاز التعديلات المطلوبة على قانون السرّية المصرفية، المقرّ أساساً في العام 2022 تحت الرقم 306، وإحالتها إلى المجلس النيابي وإقرارها. وتهدف التعديلات المضافة إلى تسهيل عمل الهيئات الرقابية، وتمكينها من الحصول على كامل المعلومات المتعلقة بالحسابات المصرفية. وعلى الرغم من إحالة الحكومة مشروع قانون إصلاح المصارف، وإعادة تنظيمها إلى مجلس النواب لدراسته وإقراره، إلّا أن هذا القانون مازال يُدرس في لجنة صغيرة متفرعة من لجنة المال والموازنة.

إن كان من الظلم تحميل الحكومة مسؤولية تأخير إقرار قانون إصلاح المصارف، المهم والمطلوب من صندوق النقد الدولي، فإن ما يؤخذ عليها هو ربط تطبيق هذا القانون، بإقرار وتنفيذ قانون الفجوة المالية. قد نصّت المادة 37 من قانون إصلاح المصارف على أنه "يسري هذا القانون لدى نشره في الجريدة الرسمية، ويعمل وفقاً لمضمون كل من "قانون اعادة التوازن المالي في لبنان"، والقانون المتعلق بوضع ضوابط استثنائية ومؤقتة على التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية، فور إقرار وصدور أي منهما أو كلاهما".

وعليه في حال لم يصدر قانون إعادة التوازن إلى النظام المالي الذي أصبح يسمّى بـ "الفجوة المالية"، والذي مازال يُعدّ في مصرف لبنان، فإن قانون إصلاح المصارف سيبقى "حبراً على ورق"، ولن يُطبَّق منه شيئ، حتى في حال إقراره. وهذه نقطة ضعف كبيرة، وغير مبرَّرة دستورياً قامت بها حكومة الرئيس نوّاف سلام.

من الناحية الأخرى، فإن اشتراط سريان قانون إصلاح المصارف بإنجاز القانون المتعلق بوضع ضوابط استثنائية ومؤقتة على التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية، يُعَدّ أمراً بالغ التعقيد. فالقانون الاخير المطلوب، ما هو إلا "الكابيتال كونترول"، الذي ترفضه كل الأطراف السياسية وجمعيات حقوق المودعين. هذا من جهة، أما من الجهة الثانية فإن حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، سبق وأصدر في الأول من تموز الحالي، التعميم 169 الذي طلب فيه من المصارف الامتناع عن تسديد أي مبالغ من الحسابات بالعملة الأجنبية المكوَّنة لديها قبل 17 تشرين الثاني 2019، بما يتجاوز السقوف التي وضعها في التعميمين 158 و166. فهل يَحلّ هذا التعميم محل قانون "الكابيتال كونترول"، أو أنه وُضع لعدم إمكانية إقرار الأخير؟ وكيف ستكون تداعياته على تطبيق قانون إصلاح المصارف؟

الإصلاح الإداري متقدم

إذاً، في الشق المتعلق بالإصلاحات الهيكلية الأمور معقدة وغير واضحة، وقد تؤجَل كلُها إلى ما بعد الانتخابات النيابية في العام القادم. أما في ما خصّ بقية الأمور، ولاسيما لجهة المراسيم الإدارية والتشريعية، فيبين تقرير "مبادرة سياسات الغد"، أن هناك تحسناً على مستويين أساسيين في الشق الاقتصادي، وهما:

- زيادة حجم المنح المالية الدولية. حيث تظهر الأرقام أن حكومة الرئيس سلام تلقت هبات خلال المئة يوم الأولى من حياتها بقيمة 14 مليون دولار، مقارنة بـ 271 ألف دولار فقط في الأيام المئة الأولى للحكومة السابقة. وهناك 45 جهة مانحة دولية تعمل على مساعدة لبنان لدعم التعافي، مقارنة بأربع جهات مانحة فقط للحكومة الماضية.

- تحسن إدارة المالية العامة. إذ تراجعت التحويلات من احتياطي الموازنة في المئة اليوم الأولى من عمر حكومة سلام بحوالي 60 في المئة. ومن المعروف أنه كلما ارتفعت التحويلات من احتياطي الموازنة كلما كانت الرداءة المالية أكبر. وهو ما يعبّر عن ضبط المالية العامة والسير بالمسارات القانونية بشكل أفضل.

المسار الإصلاحي أمام الحكومة لا يزال طويلاً وشائكاً، والأهم أنه يبقى ضبابياً. ولعل أهم ثلاثة إجراءات يجب تسريع العمل بها تتعلق، بـ:

- إعادة هيكلة القطاع العام. فالرسم البياني المرفق يُظهِرأنه على الرغم من انخفاض الأجور، فإن لبنان ينفق أكثر من اللازم على رواتب الموظفين. فقد تضَخَّم الانفاق على الرواتب ليصل إلى نحو 60 في المئة من الموازنة في العام 2023.

- إعادة هيكلة الدين العام "يوروبوندز"، ولا سيّما أن قيمتها عادت للارتفاع في الأسواق الدولية ويقارب سعر السند الـ 20 سنتاً للدولار.

- إعادة هيكلة القطاع المصرفي ولكن بدءاً من التدقيق في موازنات أكبر 14 مصرف، والعمل على رفع رساميل المصارف، وتحسين قدرتها على إعادة الودائع.

من دون هذه الاجراءات فان كل ما يظهر من انفراجات، لن يقَرَّش تعافياً اقتصادياً إنما مزيدٍ من الاستنزاف والانهيار.