كانت الضفة الغربية منذ العام 1967، حين احتلّتها إسرائيل، لبّ الصراع مع الفلسطينيين، وجغرافية الاستيطان الكبرى بالنسبة إلى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بعدما أصبح احتلال أراضي العام 1948 أمرا مفروغاً منه، على أثر قبول العرب بالقرارات الدولية وبالأرض مقابل السلام.
لم يُغير اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين من الأمر كثيراً في الضفة بل زاده سوءاً بعد هيمنة اليمين على إسرائيل وسقوط اليسار تدريجياً مع اغتيال زعيمه إسحاق رابين العام 1995.
مع الوقت أخذت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تُفرغ أوسلو من مضمونه، وهو الاتفاق الذي ترك القضايا الكبرى أصلا الى المراحل النهائية، ومنها الاستيطان، وكان ذلك من المآخذ الكبرى عليه.
ومع الزمن أيضاً تراجع دراماتيكياً دور السلطة الفلسطينية التي وقّعت الاتفاق مع الإسرائيليين أمام تقدُّم حركة "حماس" أهم الرافضين للتوقيع، التي تصدرت المشهد بعد سنوات على حساب حركة "فتح".
في الألفية الجديدة وبعد 11 أيلول 2001، وبعد التعثر الفلسطيني في الحكم، من السلطة الفلسطينية في رام الله أو حركة "حماس" في غزة، وبسبب الاقتتال الداخلي والفساد والقمع، ووسط متغيرات إقليمية ودولية وانحياز أميركي هائل لإسرائيل، ثم حروب صغرى مع الدولة العبرية أبقت روح القضية الفلسطينية حيّة، جاء "طوفان الأقصى" في توقيت دقيق ونجَم عن سوء تقدير كبير.
حصل "الطوفان" في وجه أكثر حكومات الدولة العبرية يمينية في تاريخها، وشكل فرصة نادرة للحلم اليهودي في ضم الضفة بعدما شعرت اسرائيل بأن لا رادع لها.
وكان نتنياهو صادقاً مع جمهوره بعد "الطوفان" حين وصفه بـ 11 أيلول الإسرائيلي، ثم حين أعلن لاحقاً انه سيغيّر وجه الشرق الأوسط. عمل فعلياً على ذلك ولا يزال، وها هو يشرع في مخطّط الضمّ السافر للضفة الغربية، بعد أن وجّه الأنظار طيلة الأشهر الماضية نحو غزة.
22 مستوطنة لتقطيع أوصال الضفة
قبل أيام أقرّت الحكومة الإسرائيلية إنشاء 22 مستوطنة في الضفة، من بينها أربع على طول الحدود مع الأردن وثلاث في جبال الخليل ومستوطنتين لتعزيز مناطق الطريق السريع إلى القدس ومستوطنات أخرى فوق جبل عيبال في نابلس التي ستُحاصَر شرقاً وشمالاً وغرباً مع عودة إلى مستوطنتين كانت إسرائيل انسحبت منهما، علماً أن نصف المستوطنات جديدة، وستكون في مناطق ليس فيها يهود.
المخطط الذي خصص له 11 مليون دولارا مدروس بعناية. فهو يُشرّع الكثير من البؤر الاستيطانية الموجودة أصلاً، وخطورته تأتي من كونه يشمل كل الضفة الغربية شرقاً في غور الأردن وشمالاً وجنوباً. ويهدف إلى ربط واسع للحزام الاستيطاني عبر شبكة طرق، وسيقيم خمس مناطق صناعية ويهدف الى بناء عشرات آلاف الوحدات الاستيطانية.
والخطير في الأمر أيضاً هو التغيير الديموغرافي الذي سيطرأ. فمن المُقرر أن يرتفع عدد المستوطنين الحالي البالغ 750 ألفاً، الى أكثر من مليون بزيادة تعادل ثمانية أضعاف الرقم الحالي حتى العام 2050، وذلك عن طريق إغراءات كبيرة لوجستية ومالية وتوطينية، ما يعني فصل مناطق ومحافظات الضفة بعضها عن بعض وليس فقط شمال الضفة عن وسطها وجنوبها، بل إن المخطط طموح وسيتوسع.
إنه المخطط الأكبر منذ عودة الفلسطينيين بعد أوسلو، والأكثر تاريخية وأهمية منذ احتلال الضفة العام 1967 حسب وصف الإسرائيليين أنفسهم.
هي خطوة لتغيير استراتيجيّ جذريّ بعيد المدى، تأتي في موازاة الحديث المتزايد عن الاعتراف بدولة فلسطينية. لذا سارعت حكومة بنيامين نتنياهو، في سباق مع الزمن في مواجهة الحملة العالمية عليها المؤيدة للدولة الفلسطينية، إلى هذا الإقرار لتقطيع أوصال الضفة ليصبح من المستحيل معه إقامة أية دولة فلسطينية أو حتى كيان.
هكذا، ستضرب إسرائيل مبدأ السيادة الفلسطينية، وسيكون الكيان السياسي أشلاء لأنه لن يترك حيّزا جغرافيا للفلسطينيين. فلن تكون حدود أو معابر أو قدرات أو الحد الأدنى من البنية، ليصبح المفهوم السياسي للدولة مفرغاً من مضمونه وسيصبح همّ الفلسطينيين محصوراً بأساسياتهم وبلقمة العيش وبالأمن بعيداً عن السياسة.
وهذا سيعني أن الضفة الغربية مقبلة على مواجهات كبرى باعتبارها أصل التمدُّد الاستيطاني والتهجير نحو الأردن منذ زمن طويل. والمواجهات هنا قد تبدأ مع ميليشيات المستوطنين بينما سيقف الجيش الإسرائيلي جانباً أولاً قبل أن يبدأ اجتياحاته كالعادة متشجعاً بالصمت الدولي.
وبذلك تحقّق الحكومة الإسرائيلية، حسب مفهومها، ضربة مزدوجة بتعزيز مفهوم الدولة اليهودية وفقاً للمنظور الإيديولوجي على طريق الضم، من ناحية، و إجبار الفلسطينيين على القبول بالتهجير كأمر واقع، من ناحية ثانية.
هذا مع العلم بأن إسرائيل تسيطر فعلياً على أكثر من 43 في المئة من الضفة، ومع التهويد الحاصل ستمضي في تقويض منهجي منظَّم لأركان الدولة الفلسطينية المستقبلية الثلاثة: الأرض والسكان والنظام السياسي.
وهذا يعني أنّ ليس لدى الحكومة الإسرائيلية الحالية أي استعداد للقبول بحلّ من أي نوع مع الفلسطينيين، وأن أية تسوية مع الفلسطينيين، إذا كانت ستُبصر النور، ستنتظر شريكاً إسرائيلياً يُنتجه جمهور يؤمن فعلياً بالسلام مع الفلسطينيين ومع العرب.