لطالما احترف النظام الإيراني - صاحب النفس الطويل - منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979 فن المراوغة والمناورة لكسب الوقت والإفلات من حبل مشنقة "العقوبات الدولية" والضربات العسكرية. فهو كان يرتكز على القبضة الحديدية داخلياً والاذرع العنكبوتية خارجياً.
نشأة هذه الأذرع مرتبطة بفلسفة ثورته وتصديرها، فقد اعتبر إمامُه المؤسس روح الله الخميني أن "الثورة ليست شأناً محلياً فحسب، بل هي نموذج يمكن ويجب أن ينتشر إلى العالم الإسلامي، بل إلى العالم بأسره، من أجل مقاومة الاستكبار والظلم وإقامة نظام إسلامي عادل".
إنها ثورة ارتكزت على الأيديولوجيا والسلاح وسمحت لطهران بالتمدّد خارج القمقم الفارسي الى العالم العربي والإسلامي وبالإمساك بأوراق عزّزت حضورها الإقليمي والدولي كسيطرتها على أربع عواصم عربية بما فيها بيروت، وامتلاك سبعة جيوش بما فيهم "حزب الله" على ما ادّعى مسؤولوها. فأضحت إيران على المتوسط وعند أبواب إسرائيل.
لقد شكّل تأسيس "الحزب" عام 1982 على يد الحرس الثوري الإيراني انطلاقاً من بعلبك النموذج البكر والأنجح لتصدير الثورة والأصح لقضم الدولة كبنية وكمفهوم. فتحوّل لبنان بنظر إيران الى صندوق بريد وساحة لتوجيه الرسائل. لذا لم تتعاطَ معه يوماً من منطلق دولة لدولة بل دولة مستسلمة أمام الدويلة التي أنشأتها ورعتها. هكذا أضحت بيروت منبراً سياسياً لإيران كي توجه رسائلها الى العالم وتعطي أمر اليوم لقوى "الممانعة" وفصائلها العسكرية.
تصدير الثورة ارتكز على الأيديولوجيا والسلاح وسمح لطهران بالتمدّد خارج القمقم الفارسي
أمس وصل وزير خارجية إيران عباس عراقجي الى لبنان فيما مَدُّ ثورته يتحوّل جزراً. قد تكون المرة الأولى التي يُلزَم بالدخول الى لبنان من باب الدولة بعدما رسم العهد الجديد إطار العلاقة دافعاً بها من التبعية أو أقله التدخّل وانتهاك السيادة إلى النِدّية. فرئيس الجمهورية جوزاف عون كان صريحاً صبيحة تشييع الأمينين العامين لـ"الحزب" السيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين في 23/2/2025 إذ أبلغ الوفد الإيراني برئاسة رئيس مجلس الشورى الإسلامي محمد باقر قاليباف ومشاركة عراقجي "لقد تعب لبنان من حروب الآخرين على أرضه، وأوافقكم الرأي بعدم تدخل الدول في الشؤون الداخلية للدول الأخرى".
موقف عون شكّل رادعاً سلساً لتجاوزات إيران التي كانت تستخدم بيروت منبراً لتوجيه رسائل سياسية وآخرُها التمسك بـ "وحدة الساحات" ومعادلة "جيش وشعب ومقاومة" كما تستخدم الجنوب جبهة لتوجيه رسائل عسكرية ميدانية. فقد بلغ بها تجاوزُ الأصول حدّ التبرّع بالتفاوض مع الغرب على تطبيق لبنان القرار 1701.
لكن الموقف اللبناني الأوضح ومن دون قفازات يبقى لرئيس مجلس الوزراء نواف سلام الذي أعلن عبر "سكاي نيوز عربية" في 26/5/2025: "عصر تصدير الثورة الإيرانية انتهى" و"لن نسكت عن بقاء أي سلاح خارج سلطة الدولة". عملياً، رفضُ تصدير الثورة هو رصاصة قاتلة للتوسع الإيراني وبترٌ كامل لأذرعه وبالتالي الانتقال من عصر المدّ الإيراني على حساب سيادة دول عربية عدة إلى الجزر لمصلحة المشهديّة الجديدة التي ترتسم في المنطقة حيث العالم العربي وعلى رأسه المملكة العربية السعودية شريك في صناعة السياسة الدولية، أقله على صعيد المنطقة بشكل أساسي.
هذا الإطار الذي رسمه موقفا الرئيسين عون وسلام تُرجم بخطوات عملية منها قرار سيادي يرتبط بمصلحة لبنان تمثّلَ بمنع هبوط الطائرات الإيرانية في مطار رفيق الحريري الدولي وسط عجز طهران ومعها "حزب الله" عن إبطاله. وتمثّل أيضاً عبر استدعاء وزير الخارجية يوسف رجّي السفيرَ الإيراني لدى لبنان مجتبى أماني احتجاجاً على انتقاده المباحثات اللبنانية لنزع سلاح "الحزب" وحصر حمل السلاح بالدولة اللبنانية. فحضر أماني الى" الخارجية" في 24/4/2025 حيث أُبلِغ بضرورة التقيّد بالأصول الدبلوماسية المحدَّدة في الاتفاقيات الدولية الخاصة بسيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وفي مقدّمها إتفاقية فيينا.
بالتوازي مع المشهد اللبناني السيادي المستجد بعد حقبة طويلة من التراخي و"الميوعة"، يحضر عراقجي على وقع المفاوضات الصعبة التي تجريها طهران مع واشنطن وخسائر محورها القاتلة من غزة إلى وضعية "الحزب" في لبنان وسقوط نظام الأسد. فورقة فتح جبهة الجنوب بوجه إسرائيل والتي كانت تلوّح بها إاستُهلِكت ولم يعد لها أي قيمة في ظل استمرار الحرب.
طهران تصدر من بيروت "شهادة وفاة" لـ "وحدة الساحات" ومعادلة "جيش وشعب ومقاومة" و"جهاد البناء" الذي كانت تمارسه عبر "الدويلة"
من وزارة الخارجية الى قصر بعبدا فعين التينة والسراي الحكومي، تأكيد لبناني للضيف الإيراني على أهمية:
* تعزيز العلاقات من دولة إلى دولة والاحترام المتبادل لسيادة الدولتين.
* بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها وحصر السلاح بيدها.
* تأمين الدعم اللازم من الدول الصديقة للبنان من خلال الحكومة اللبنانية والمؤسسات الرسمية حصراً لكي تتمكن من القيام بدورها في إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي المنشود.
أما الضيف الإيراني الذي ببراغماتية بلاده المعهودة وضع زيارته في إطار فتح صفحة جديدة في العلاقة مع لبنان انطلاقاَ من الظروف المستجدة التي يشهدها لبنان والمنطقة، فأكّد من جهته على:
* تعزيز العلاقات اللبنانية-الإيرانية على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
* دعم استقلال لبنان وسيادته ووحدة أراضيه.
* دعم الجهود التي يبذلها لبنان لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ولا سيما الجهود الديبلوماسية اللبنانية معرباً عن استعداد إيران للمساعدة فيها.
* اعتماد مبدأ عدم التدخل في السياسة الداخلية
* استعداد بلاده للمساعدة في إعادة الإعمار واستعداد الشركات الايرانية لذلك من خلال الحكومة اللبنانية.
سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون، تعكس زيارة عراقجي حجم المتغيرات في المنطقة وروح المشهد الجديد. كأن إيران "مرغمٌ أخوك لا بطلا" تقرّ بانتهاء زمن "محور الممانعة "وفائض قوته، فتصدر من بيروت "شهادة وفاة" لـ"وحدة الساحات" ومعادلة "جيش وشعب ومقاومة" و"جهاد البناء" التي كانت تمارسه عبر "الدويلة" وتعلن الشهادة بأن لا علاقة مع لبنان إلا من منطلق كونه دولة سيدة ولا مساهمة بالإعمار إلا من خلال الحكومة خصوصاً أن وزير الخارجية يوسف رجّي أبلغ عراقجي أن المجتمع الدولي كان واضحاً مع لبنان بأنّ لا إعمار قبل الانتهاء من سلاح "الحزب". يبدو أنها زيارة "حصر إرث" بعد وفاة "محور الممانعة" على وقع "ترسيم حدود اللعبة" بالحديد والنار من غزة إلى لبنان وسوريا واليمن.