يشير مصطلح "السرية المصرفية" إلى الإطار القانوني الذي يحمي سرية المعلومات المالية التي تحتفظ بها المصارف عن زبائنها. تختلف هذه القوانين من بلدٍ إلى أخر، لكنها بالمطلق تمنع المصارف من كشف المعلومات الشخصية والمالية المتعلقة بزبائنها دون موافقتهم أو دون قرار قضائي. ويتراوح نطاق السرية المصرفية بين السرية المهنية والسرية القوية للخصوصية المالية. تاريخيًا إرتبط إسم بلدان مثل سويسرا، واللوكسمبورغ، ولبنان،... بالحماية الهائلة للخصوصية المالية قبل أن تأخذ الأمور منحًا خاصًا بُعيد هجمات أيلول 2001 على المركز التجاري في الولايات المُتحدة الأميركية.

سويسرا أول دولة في العالم اعتمدت قوانين السرية المصرفية كإطار قانوني حيث أقرّت قانون السرية المصرفية في العام 1934 كردٍّ على تمدد الانظمة الشمولية في اوروبا والرغبة السويسرية بحماية أصول الأفراد، وخاصة أولئك الذين يفرون من الاضطهاد أو الحكومات القمعية، من خلال ضمان بقاء معلوماتهم المالية خاصة. وبالتالي أصبح خرق قانون السرية المصرفية جريمة جنائية يعاقب عليها القانون بالغرامات أو السجن.

كان لقوانين السرية المصرفية تداعيات إيجابية على سويسرا من خلال جذب الأفراد الأثرياء والشركات التي تبحث عن الخصوصية. إلا أن التهرب الضريبي وغسل الأموال وتمويل الإرهاب وجد طريقها أيضًا من خلال هذه القوانين. وفي العام 2008 وتحت الضغوط الدولية المتزايدة من جانب الولايات المتحدة وعدد من المؤسسات الدولية، قامت الحكومة السويسرية بتخفيف قوانين السرية المصرفية لصالح بعض الدول ولصالح القضائين المحلّي والدولي.

بالمطلق، تُجمع المراجع العلمية والتقارير الرقابية على أن للسرية المصرفية مزايا وعيوب يُمكن ذكرها على الشكل التالي:

مزايا السرية المصرفية – حماية الخصوصية المالية، تشجيع الادخار والاستثمار، جذب رؤوس الأموال الأجنبية، تعزيز الثقة في النظام المصرفي، الحماية ضد عدم الاستقرار السياسي، وإطار قانوني لحماية البيانات.

عيوب السرية المصرفية – تسهيل التهرب الضريبي وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، قلة الشفافية، تآكل الثقة العامة، الضغوط العالمية وتحديات قانونية، مخاوف عدم المساواة والعدالة الاجتماعية، إمكانية الاستغلال من قبل الأنظمة الفاسدة، التضارب مع التعاون الدولي، مخاطر السمعة للدوّل.

وشكّلت السرية المصرفية موضوع نقاش كبير حول إيجاد توازن بين حماية الخصوصية الشخصية وضمان الشفافية لمنع الاستغلال. وساهمت أحداث كبيرة مثل العملية الإرهابية في 11/9/2001 ضد المركز التجاري الأميركي ،بدفع عالمي لمحاربة السرية المصرفية تُرجمت بعدّة معاهدات وقوانين منها معاهدة مكافحة الفساد، وقانون "فاتكا" وقانون "غاتكا"... واستجاب العديد من الدول طوعًا لهذه القوانين والمعاهدات في حين حاولت البعض المقاومة، إلا أن حجم الاقتصاد الأميركي والخوف من العقوبات أعطى فعله في سويسرا واللوكسبورغ واللشتشتاين وغيرها من الدول.

أدخل لبنان قانون السرية المصرفية في عام 1956 (أي بعد مرور 22 عامًا على إدخال السرية المصرفية في سويسرا) مستوحى من النموذج السويسري. وعلى الرغم من دوره الكبير في ترسيخ مكانة لبنان كمركز مالي، إلا أن القانون واجه تدقيقًا متزايدًا في العقود الأخيرة بسبب إساءة استخدامه لأنشطة غير قانونية. لا تزال الجهود جارية لإصلاح النظام بما يتماشى مع معايير الشفافية العالمية.

إستطاع لبنان بعدها جذب رؤوس الأموال الفلسطينية خلال النكبة واستقطاب البترودولار والكثير من رؤوس الأموال التي أدّت إلى إعطاء لبنان دورًا كبيرًا في ترسيخ مكانته كمركز مالي.

إلا أن القانون واجه تدقيقًا متزايدًا في العقود الأخيرة وضغوطات دولية كبيرة بسبب إساءة استخدامه لأنشطة غير قانونية وتمّ إدخال تعديلات عليه لأول مرّة من خلال القانون 318/2001، ومن ثمّ من خلال القانون 44/2015 وحديثًا من خلال القانون 306/2022، والقانون 1/2025.

التعديل الأخير على قانون السرية المصرفية (قانون 1/2025)أعطى ثلاث جهات الحق بالولوج إلى كل المعلومات المصرفية التي تطال الزبائن (مصرف لبنان، لجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع) بالإضافة إلى أربع كيانات كان لها حق الوصول إلى المعلومات (هيئة التحقيق الخاصة، مصلحة الضرائب، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والقضاء المُختص).

ثلاثة أهداف يُمكن استنتاجها من خلال التعديل الأخير على قانون السرية المصرفية:

أولًا – إمكانية تقييم المصارف من خلال الإطلاع على كامل التفاصيل لالتزامات المصارف تجاه المودعين ومعرفة قدرة كل مصرف على تأمين التزاماته؛

ثانيًا – ملاحقة المخالفين المشتبه بهم بجرائم مالية خصوصًا تلك المنصوص عليها في المادة الأولى من قانون 44/2015 والتي تشمل 21 نشاط تُصنّف الأموال الناتجة عنه على أنها أموال غير مشروعة.

ثالثًا – الإستفادة من ضبط المخالفين وذلك لمصادرة الأموال (بحكم القانون 44/2015) وبالتالي تخفيف حجم الودائع التي يتوجّب إعادتها للمودعين.

رابعًا – كشف الممولين والسماسرة داعمي بعض القوى المفروض عليها عقوبات. ونعتقد أن هذا الهدف هو الدافع الأساسي للضغوطات الدولية.

وهنا يُطرح السؤال: ماذا ستُغيّر هذه التعديلات بالنسبة إلى سابقاتها؟

في القانون 44/2015 والذي كان إمتدادًا للقانون 318/2001 (تمّ إلغائه وحل محله 44/2015)، تتمتّع هيئة التحقيق الخاصة بأوسع الصلاحيات من دون أية قيود زمنية أو على صعيد المُحتوى. أيضًا وفي التعديلات على قانون السرية المصرفية الذي تمّ في العام 2022، تمت إضافة كل من القضاء المُختص ومصلحة الضرائب والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. إلا أن النتيجة على الأرض لم تتغير حيث أن المداخيل الضريبية لم ترتفع، وأصحاب الثروات ازدادت ثرواتهم وفي المُقابل تمّ إستخدام أموال المودعين لتمويل إنفاق الدولة.

التعديل الأخير أعطى، بالإضافة إلى الجهات المذكورة أعلاه، مصرف لبنان، لجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع الحق بالولوج إلى كل المعلومات المصرفية التي تطال الزبائن وإستطرادًا المراقبين المُستقلين. فهل يتغير شيئًا على الأرض وهل يتمّ تطبيق هذا القانون؟

من المعروف أن هناك أكثر من 80 قانون غير مُطبّق في لبنان، إما بسبب عدم صدور المراسيم التطبيقية أو بسبب التدخلات السياسية. وبالتالي يُمكن القول أن إحتمال أن يلحق هذا القانون بالأخرين على طريق عدم التطبيق هو أمرٌ واردٌ. إلا أن الرغبة الدولية في كشف الممولين والـ سماسرة لداعمي بعض القوى المفروض عليها عقوبات، ستؤدّي إلى تطبيق هذا القانون تحت تأثير الضغط الدولي. وهنا يأخذنا التحليل إلى إمكانية ربط المعلومات الصحافية عن 720 إسم موضوعين على لائحة العقوبات مع إقرار قانون رفع السرية المصرفية في لبنان. فهل يُمكن بعد للطبقة السياسية التهرّب من تطبيق هذا القانون؟ الجواب في الأسابيع القادمة.