تجد فرنسا نفسها اليوم في مواجهة حتمية مع واقع مالي صعب، إذ باتت المطالبة بإجراء إصلاحات جذرية لتوفير عشرات مليارات اليوروهات. لكن هذه الدعوات ليست جديدة، إذ باريس لم تُسجّل ميزانية وطنية متوازنة منذ سبعينيات القرن الماضي. وكانت آخر مرة شهدت فيها البلاد فائضًا في ميزانية الدولة عام 1974، حين سجّلت فائضًا قدره 8.5 مليار فرنك (نحو 6.7 مليار يورو). ومنذ عام 1975، تعيش فرنسا في دوّامة العجز المالي السنوي المستمر، نتيجة عوامل اقتصادية متراكمة كأزمة النفط الأولى، وانتهاء فترة "الثلاثين المجيدة" (الفورة الاقتصادية ما قبل 1973)، إضافة إلى نمط إنفاق حكومي يتجاوز قدرات المواطن الفرنسي. ولا يمكن تجاهل عبء نظام الحماية الاجتماعية ودولة الرعاية، التي بات تمويلها شبه مستحيل منذ نصف قرن.
في عام 2025، يسعى مقر وزارة المالية الفرنسية في بيرسي بشكل حثيث لإيجاد 40 مليار يورو من التخفيضات. لكن ما هي التدابير الأكثر فاعلية لتحقيق ذلك؟ في حكومة بايرو التي تعاني من توازن سياسي هش، لكل وزير مقاربته الخاصة. وزيرة الميزانية تريد تقليص "الثغرات الضريبية"، إذ يضم النظام الضريبي الفرنسي 467 إعفاءً ضريبيًا تتيح خفض الضرائب حسب القطاعات الاستثمارية، مما يؤدي إلى خسارة 25% من العائدات الضريبية سنويًا. وزارة المالية تقترح إلغاء نحو خمسين منها. لكن هل يمكن تحقيق ذلك؟ لا أحد يعلم، وكل وزير يطرح "بالون اختبار" في الفضاء السياسي.
أما وزير المالية، إيريك لومبار، يقترح مساهمة المتقاعدين في "الجهد الوطني" عبر إلغاء الخصم الضريبي بنسبة 10% على معاشاتهم التقاعدية. غير أن جميع الأطراف تُجمع على أن فرض ضرائب جديدة في بلد يُعد "بطلاً عالميًا" في الضرائب سيكون بمثابة انتحار اقتصادي.
وعلى مدى عقود، ماطلت النخبة السياسية الفرنسية في كبح نمط حياة دولة مترهلة وبيروقراطية مفرطة. وفي خضم هذا التأجيل المتكرر، قدّمت باريس ما يُشبه "الوهم الإصلاحي" عبر أسلوب جديد يُعرف بـ "الميزانية على أساس صفر" (BBZ)، والذي يُلزم كل إدارة حكومية بإعادة النظر في كل بند من بنود الإنفاق، بدلًا من تكرار ميزانية العام السابق كما هي. لكن، هل تُفضي هذه الطريقة إلى وفورات حقيقية؟ وهل يمكن فعلاً تطبيق مناهج الإدارة الخاصة على المالية العامة؟ تجربة إيلون ماسك المريرة في الولايات المتحدة تُظهر أن النهج الريادي غالبًا ما يصطدم بجدران البيروقراطية المنيعة والفخاخ التشريعية.
تواصل فرنسا انجرافها، وماليتها العامة باتت أشبه بـ "قارب سكران" لم يعرف الاستقرار منذ السبعينيات. بلدٌ لطالما أحبّ إعطاء الدروس للعالم، يبدو اليوم بحاجة لأن ينظر في مرآته. جيرانها الأوروبيون يتقدمون: إيطاليا بقيادة ميلوني تمكّنت من إعادة ضبط حساباتها، إسبانيا خفّضت عجزها إلى 2.8%، والبرتغال تحقق فائضًا ماليًا.
فهل باتت فرنسا التلميذ المتعثّر في صفّ الاتحاد الأوروبي؟ وهل تملك القوة للانطلاق مجددًا بعد انتخابات 2027 الرئاسية؟ الشعور بالتراجع لم يعد مجرد انطباع… بل أصبح واقعًا.
إ.ر.