طالت الاضطرابات التي شهدتها التجارة العالمية نتيجة الرسوم الجمركية الأميريكية الجديدة (حرب تجارية وبوادر حرب عملات) المصارف المركزية التي تقف اليوم في حيرة من أمرها أمام الخطوات الواجب إتخاذها. وعادة ما تكون خطوات المصارف المركزية استباقية تهدف إلى إستقرار الإقتصاد والنقد، إلا أنه في هذه الحالة وفي تحليل أوّلي، من الواضح أن السيناريو الأكثر إحتمالًا هو الإنتظار والترقب إلى أن ينقشع المشهد ويُعرف ما يجب القيام به من خطوات على صعيد السياسة النقدية.

لم تكن المصارف المركزية في عجزٍ وحيرةٍ من أمرها كما هي اليوم. هذه المصارف التي تمتلك النماذج الاقتصادية والبيانات المالية والاقتصادية والنقدية التي تسمح لها بالتنبؤ بالسيناريوهات المُستقبلية، تعجز اليوم أمام المُعطيات التي فرضتها إجراءات دونالد ترامب الجمركية على التجارة الدولية. والمعروف عن السياسات النقدية أنها لها ثلاث إستراتيجيات أساسية هي: إستراتيجية مُتشدّدة، إستراتيجية مُيسرة، وإستراتيجية مُحايدة. وفي وقت الأزمات تقوم هذه المصارف بإعتماد سياسة استجابة للأزمة، وسياسة إستجابة في حال الركود التضخّمي.

عمليًا، خرجت الاقتصادات العالمية من أزمة كورونا معطوفة على الأزمة الروسية – الأوكرانية بنسب تضخّم عالية، وهو ما دفع المصارف المركزية إلى اعتماد سياسات مُتشدّدة لكبح التضخّم (مرض سرطان في الإقتصاد). وبعد ما تمّ السيطرة عن التضخّم بنسبة كبيرة، بدأت المصارف العالمية الرئيسية (الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الأوروبي...) بخفض أسعار الفائدة لتحفيز النمو الاقتصادي عبر شقيّه الاستثماري والاستهلاكي. إلا أن الفرحة لم تكتمل حيث أتت الإجراءات الجمركية الجديدة للإدارة الأميركية لتُلقي على المصارف المركزية المخاوف من عودة التضخّم إلى الاقتصادات العالمية من جهة (وهو ما يفرض رفع الفائدة) وتحفيز النمو الاقتصادي الناتج عن انخفاض التجارة الدولية من جهة أخرى (وهو ما يفرض خفض الفائدة). وبالتالي تجد المصارف المركزية نفسها في حال من عدم اليقين حول الإجراءات الواجب إتخاذها. الجدير ذكره أن أي خطأ في التقدير من قبل هذه المصارف له تداعيات كارثية على الاقتصاد نظرًا إلى تشابك الاقتصادات العالمية بعضها ببعض.

ويبقى السؤال الجوهري: ماذا يتوجّب على المصارف المركزية القيام به في هذه الحال؟

رأى المصرف المركزي الأوروبي أن هناك هامش تحرّك له مع مُعدّل تضخم مُنخفض نسبيًا، فعمَد إلى خفض سعر الفائدة لتحفيز الإقتصاد والتعويض عن الخسائر الناتجة أو التي ستنتج عن الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة. أما المصرف المركزي التركي، فقد عمَد إلى رفع الفائدة وذلك بهدف جذب رؤوس الأموال التي تنسحب من أسواق الأسهم السندات وتذهب إلى الإستثمار في الملاذ الآمن. من جهته لعب الإحتياطي الفيدرالي الأميركي الحياد أمام ما يحصل وقد عبّر عن ذلك رئيسه باول بقوله: لا نعلم ما يجب القيام به نظرًا إلى حالة عدم اليقين التي فرضتها إجراءات الرسوم الجمركية.

عدّة إعتبارات يجب أخذها قبل إتخاذ أي قرار مُتعلّق بالسياسة النقدية وعلى رأسها:

أولًا – ضغوط التضخم: حيث يُمكن أن تؤدي الرسوم الجمركية إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، مما قد يؤدي إلى زيادة التضخم.

ثانيًا –النمو الإقتصادي: حيث من المعروف أن الإضطرابات في التجارة العالمية تؤثّر سلبًا على النمو الاقتصادي بحكم تشابك الاقتصادات العالمية من باب التجارة الدولية والاستثمارات.

ثالثًا – حالة عدم اليقين التي قد تدفع إلى أخذ مواقف حذرة بحكم الطبيعة غير المتوقعة لسياسات التجارة التي تُثير البلبلة في الأسواق نتيجة الغموض الذي يعتري التوقعات من قبل الشركات والمستثمرين.

هناك العديد من الإجراءات التي قامت (أو ستقوم) بها المصارف المركزية في مواجهة الرسوم الجمركية المتزايدة :

أولًا –المراقبة والتقييم: هذا الإجراء جوهري وينصّ على مراقبة تأثير الرسوم الجمركية على النمو الاقتصادي، التضخم، واستقرار الأسواق المالية، وبالتالي تقييم التداعيات على المؤشرات التي تدخل في أخذ القرار.

ثانيًا – إجراءات عملية: بحسب نتائج التقييم والمراقبة، تتخذ المصارف المركزية قرار رفع الفائدة، أو خفضها، أو الوقوف على الحياد والانتظار.

ثالثًا – التواصل والإرشادات: في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السياسات النقدية، تعتمد المصارف المركزية على التواصل مع الأسواق بشكل مُكثّف بهدف تخفيف حالة عدم اليقين.

رابعًا – التعاون بين السياستين النقدية والمالية: الرسوم الجديدة التي فرضها ترامب والإجراءات الانتقامية، جعلت التعاون بين السياسات النقدية والمالية أكثر أهمية وأكثر تعقيدًا، حيث أولى خطوات التنسيق تكمن في التقييم المُشترك للأثر الاقتصادي، ولكن أيضًا إدارة الطلب المُنسّقة، والتعديلات في العرض، وإدارة سعر الصرف، و استدامة السياسة المالية، والتواصل الواضح والمُنسّق.

مُحاكاة إحتمالات السيناريوهات المطروحة أمام المصارف المركزية، ليس بأمرٍ سهلٍ خصوصًا أن الأمر يتطلّب معلومات هائلة قسمً منها يبقى في إطار التكهنات. إلا أنه وفي إطار فرضي، قمّنا بمحاكاة لهذه الاحتمالات وتوصّلنا إلى أن المصارف المركزية الأساسية في العالم، تجد نفسها أمام سيناريوهين أساسيين: الأول سياسة نقدية ميسرة أو الحياد مع إحتمالات متقاربة نتيجة الغموض الذي تعيشه هذه المصارف.


رسم توضيحي 1: مُحاكاة لاحتمالات سيناريوهات استجابة المصارف المركزية (مصدر: حساباتنا)


في الخلاصة يُمكن القول أن المصارف المركزية لا تمتلك رؤية واضحة للتعامل مع الوضع الحالي. أكثر من ذلك، يُمكن القول أن المصارف المركزية تواجه تحديًا كبيرًا في صياغة هذه الرؤية مع طبيعة الرسوم الجمركية المتزايدة غير المتوقعة، ومع صعوبة تقييم تأثيرها. من هنا ضرورة الإعتماد على السيناريوهات مع مؤشرات إنذار مُبكر لإتخاذ الإجراءات المناسبة قبل فوات الآوان.

وفي لبنان هناك تحديات إضافية تجعل الأمور أكثر تعقيدًا منها عدم الاستقرار السياسي، ما يُصّعب مهام المركزي، وضعف المصداقية في مؤسسات الدولة، والأزمة الاقتصادية والمالية التي يتخبّط فيها لبنان، واعتماده الكبير على الاستيراد. من هنا ضرورة التعاون الحكومي مع المركزي وذلك من خلال تقديم تحفيز ضريبي لتشجيع الإنتاج المحلّي أو الإستثمار في سلاسل إمداد بديلة، كما وتقديم قروض مستهدفة للصناعات أو تسهيل الوصول إلى القروض للشركات التي يُمكنها تأمين البديل.