أعادتنا "التعيينات المالية والإدارية" التي تكللت بتبوء كريم سعيد منصب حاكم مصرف لبنان بالأصالة، إلى أحد أشهر إعلانات الزمن الجميل. فكما انتظر "أبو فؤاد" 20 عاماً في إعلان "YES" لحظة "رجوع حبايبه" لاصلاح ما أفسدوه بـ"عمر الولدنة"، انتظر اللبنانيون عموماً والمستثمرون خصوصاً سنوات طويلة إشغال سدة حاكمية المركزي بمن يستطيع النهوض بـ"هيئة الاسواق المالية"، من ضمن مهام أساسية أخرى.

عانت "هيئة الأسواق المالية" خلال أعوام الأزمة الاقتصادية من اختلالات بنيوية صدّعت أسسها، وكادت تحوّلها إلى ركام، إذ فقدت مصدر تمويلها الأساسي مع حلّ شركة لبنان المالية "سوفيل". وتدهورت قيمة رواتب موظفيها. واستحكمت "النكايات" بين أعضاء مجلس إدارتها. وتعطل دورها الأساسي بالرقابة والترخيص لشركات جديدة، وعمت الفوضى مكاتبها التي خلت لفترات طويلة من الحياة.

محاولة إقفال الهيئة

لعل أخطر ما واجهته "الهيئة" كان فقدان المسؤولين الإيمان بها وبدورها. حيث قرر الحاكم السابق بالإنابة وسيم منصوري فتح باب الاستقالات الطوعية من الهيئة نهاية العام 2023، ووضعِ من يرفض بالاستيداع، تمهيداً لحل الهيئة وازاحة هم تشغيلها عن ظهره... وذلك بعد رفض مجلس الوزراء المقترح الذي تقدم به بإعطاء الهيئة سلفة خزينة، أو تأمين مصادر تمويل أخرى لاستمرار عملها. وقد حال بين الإقفال النهائي والاستمرار طعن تقدم به المحامي المتخصّص في القانون الإداري الدكتور باسكال ضاهر أمام مجلس شورى الدولة، بتكليف من بعض الموظفين والامينة العامة السابقة. وقد ارتكز الطعن على "تفلّت القرار، لمخالفته القانون". (راجع: التمديد المؤقّت لإقالة موظّفي "هيئة الأسواق المالية" يسلك طريقه... والطعن عـ"الكوع" – الصفا نيوز - اقتصاد ومال 10 كانون الثاني 2024)، ونجح ضاهر، رغماً عن إرادة الحاكم بالإنابة، بمعاونة القضاء المختص بمنع إقفالها وتأمين الحد الأدنى من الاستمرارية...

التعطيل استمر

نجت الهيئة من الإقفال في العام 2024، لكنها لم تنجُ من استمرار التعطيل. فلم يتم البت بعشرات طلبات الترخيص المقدمة من مستثمرين ورجال أعمال في شتى ميادين التداول والاستشارات والتعامل في البورصة. وارتخت قبضتها على السوق الذي شهد تفريخ "دكاكينٍ البورصة و عملات رقمية" للتداول والاتجار بالأوراق المالية والأسهم والعملات المشفرة. ولم تلعب دورها الطبيعي في متابعة عمل الشركات القانونية. فتـُركت الأخيرة فريسة للابتزاز الإعلامي والملاحقات القضائية والأمنية الانتقائية و الاستنسابية، التي أثبتت في أحيان كثيرة جهل من قام بها من طرف القضاء أو الأجهزة الأمنية ببديهيات الأسواق المالية وتقنيات التداول.

مصير هيئة الأسواق المالية

القيامة التي يفترض أن تشهدها هيئة الأسواق المالية مع تعيين رئيس أصيل لها، نغصّتها أخبار – أكثر من إشاعات، وأقل من معلومات – أن مصير الهيئة مع العهد الجديد، سيكون واحد من أمرين: إما استمرار الوضع على ما هو عليه، وإما فصلها عن مصرف لبنان وتعيين النائب الأول للحاكم – الحاكم بالإنابة سابقاً رئيسا عليها، وهو ما أثار ردة فعل سلبية من قبل أحد المستثمرين الذي استطلعنا رأيه. فـ"الحالة الأولى تعني بقاء الهيئة في مرحلة "الموت السريري"، في وقت أحوج ما يكون فيه البلد إلى وجود هيئة مالية ناظمة، قادرة على مراقبة السوق وضبطه والسماح بدخول شركات جديدة، لا يقتصر دورها على تقديم الاستشارات والتمويل وتأمين فرص التداول، إنما أيضاً على خلق مئات فرص العمل وتسديد الاشتراكات للهيئة نفسها، والضرائب والرسوم للدولة، وحماية المتداولين من الانجرار وراء ألعاب التداول القذرة والمراهنات غير الشرعية وألعاب الميسر المعدلة التي تمارسها مكاتب "تحت الدرج" المنتشرة كالفطريات في مختلف المناطق اللبنانية.حاجة وليست ترفاً

مرة جديدة هيئة الأسواق المالية حاجة، وليست ترفاً أينما وُجدت، فكيف إذا كانت في بلد يعاني من فقدان الثقة الداخلية والخارجية بنظامه المالي والمصرفي. كل ما ينقص هيئة الاسواق المالية لاستعادة زمام المبادرة هي 3 أمور بديهية:

- التمويل من خلال اشتراكات الشركات والمصارف والمؤسسات المالية بالقيم الفعلية وليس الوهمية، ومن الغرامات التي تفرضها على الشركات المخالفة، من دون منّة السلف أو التمويل بأي وسيلة أخرى. ومن البديهي أنه كلما زاد عدد الشركات المرخصة كلما زادت إيرادات الهيئة ومكّنتها من لعب دورها الطبيعي. وهو الأمر الذي يستوجب عاجلاً وليس آجلاً نفض الغبار عن عشرات ملفات الترخيص المقدمة المكتملة العناصر، لشركات دفعت عشرات آلاف الدولار لتحضير أوراقها، واستئجار مكاتب والتعاقد مع خبراء وموظفين. وهناك ملفات بحسب أحد المستثمرين مازال يقبع في الأدراج منذ 3 سنوات، ما دفع صاحبه الى التفكير ملياً في سحبه والاتجاه إلى أية دولة مجاورة "تحترم مستثمريها".

- استكمال التعيينات الإدارية في الهيئة وتطبيق ما نص عليه القانون لجهة إنشاء المحكمة الخاصة بالأسواق المالية ولجنة العقوبات.

- إدخال بعض التحديثات على القوانين سيما تلك المتصلة بوضع نظام ترخيص وتداول خاص بالعملات الرقمية المشفّرة Crypto currency كـ "البيتكوين".. وذلك من أجل ضبط السّوق وحماية المستثمرين من دكاكين التداول، التي تؤمن الولوج إلى منصّات التداول من أمثال "Binance" و "kucoin".. وغيرها. إضافةً لضبط ومراقبة بيع وشراء عملة USDT من دون أي رقابة، مع ما تحمله العمليات من مخاطر تبييض أموال. فبدلاً من ترخيصها ومراقبتها وضبطها، تغض الهيئة النظر عنها على قاعدة "كفو كفو انا مش شايف شي"، تؤكد المصادر.

اللبنانيون عموماً والمستثمرون خصوصاً يعلّقون آمال كبيرة على الحاكم الجديد لمصرف لبنان، لانتشال هيئة الأسواق المالية من كبوتها. ولاسيما أنه ليس في الأمر استحالة. فكل ما يتطلبه الأمر إيمان بعمل المؤسسات ودورها، تحديث القوانين لكسر جمودها وتطبيقها، ومعرفة علمية وتقنية بعمل الشركات. وهي مميزات ثلاث تجتمع في شخص الحاكم القادم من تجربة عملية عريضة في المصارف والشركات المالية، فهل يقول الحاكم كريم سعيد "YES" لهيئة الأسواق المالية؟ سؤال يستبشر المتابعون بأن يكون جوابه الحتمي، نعم. ولاسيما أن الحاكم آت على صهوة عهد إصلاحي لا يريد أحد أن يخيب ظنه.

النقاط///

هيئة الأسواق المالية في دائرة الضوء من جديد، فهل تفعل أم يستمر التمييع؟

حديث عن فصل "الهيئة" عن مصرف لبنان وترأسها لنائب الحاكم الأول

تفعيل عمل هيئة الأسواق المالية حاجة في ظل الأزمة وإدراج لبنان على اللائحة الرمادية