في مشهد يعكس استمرار اهتمام المؤسسات المالية الدولية بمساعدة لبنان للخروج من أزمته المتعددة الأوجه، جاء إعلان وفد البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية عن استعداده للعمل مع القطاع الخاص اللبناني ودعم المؤسسات والشركات المتوسطة في مجالات الطاقة البديلة. وأعلن أيضاً استعداده لدعم الحكومة في مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهي بادرة جديدة لإعادة ضخّ بعض الأمل في الاقتصاد المنهك.
يشكّل إعلان البنك الأوروبي دعمه لمشاريع الطاقة البديلة، خطوة استراتيجية تحمل أكثر من بعد. فالتحوّل نحو الطاقة النظيفة لم يعد عنصر رفاهية، بل حاجة ملحّة للبنان، الذي يعاني من انهيار منظومته الكهربائية، وارتفاع أسعار المحروقات، واعتماد شبه كامل على المولّدات الخاصة الملوِّثة والمكلفة. دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في هذا القطاع قد يُشكل نواة اقتصادٍ مستدام، وأكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات.
طالما لعب القطاع الخاص في لبنان دوراً محورياً في تحريك العجلة الاقتصادية، واليوم يعوَّل عليه أكثر من أي وقت مضى، في ظل ضعف الدولة وتآكل مؤسساتها. وبدعم من البنك الأوروبي، قد تجد هذه المؤسسات نفسها أمام فرصة لتوسيع أعمالها وتوظيف المزيد من اليد العاملة المحلية.
الإصلاح مطلب لبناني قبل أن يكون دولياً
تطرّق لقاء وزير المالية ياسين جابر مع وفد البنك الأوروبي إلى مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهو نموذج يعوّل عليه العديد من الدول للخروج من أزماته. وتفعيل الشراكات من هذا النوع يمثل أحد أهم المفاتيح لتأمين التمويل الخارجي وتحفيز الاقتصاد.
لكن يبقى التحدي الأساس في تأمين بيئة تنظيمية وقانونية تضمن الشفافية والمحاسبة، وتمنع احتكار المشاريع أو تفصيلها على قياس جهات سياسية أو مالية معيّنة.
في موقف لافت، شدد الوزير جابر على أن الإصلاح ليس فقط مطلباً دولياً بل هو التزام لبناني، في رسالة تهدف إلى تصحيح الصورة التي طال ترويجها بأن لبنان يطبّق الإصلاح فقط من باب الإذعان للضغوط الخارجية. وهو كلام محق من حيث المبدأ، إذ لا يمكن لأي برنامج دعم أو نهوض أن ينجح ما لم يكن جزءاً من إرادة داخلية لإحداث تغيير جذري في بنية النظام الاقتصادي والمالي، ومحاربة الفساد، وإعادة بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها.
صندوق النقد: محطة لا مفرّ منها
على خط موازٍ، يواصل لبنان إعداد برنامج إصلاحي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وهو حجر الأساس لأي دعم دولي مستدام. الوزير جابر أعاد التذكير بأن لبنان لا يزال يواجه تبعات تعثره عن سداد سندات اليوروبوندز عام 2020، ما يجعل إعادة هيكلة الدين العام، وإصلاح القطاع المصرفي، وتنظيم المالية العامة، من الأولويات القصوى في المرحلة المقبلة.
ولعل أبرز ما أشار إليه جابر خلال زيارته للكويت ومشاركته في اجتماعات صندوق النقد العربي، هو التوجّه نحو إعداد إطار مالي واقتصادي متوسط المدى، يُتفق عليه مع صندوق النقد، وهي خطوة ضرورية لاستعادة الحد الأدنى من الثقة المحلية والدولية.
الأمن والاستقرار: شرط النجاح الأول
لكن مهما تكن الخطط محكمة والدعم الخارجي متوافرا، يشكّل غياب الاستقرار الأمني والسياسي عائقاً حقيقياً أمام أي إصلاح. وقد كان لافتاً تأكيد الوزير جابر أن "الأمن والاستقرار هما الركيزة الأساسية" لأي تعافٍ اقتصادي، داعياً المجتمع الدولي إلى لعب دور فعّال في مساعدة لبنان على تأمين هذه البيئة الآمنة لجذب الاستثمارات.
رغم أهمية ما طُرح في اللقاء، إلا أن التحديات أمام لبنان لا تزال كثيرة. فهناك غياب الثقة الدولية بسبب أداء سياسي فاشل وفساد مستشرٍ، وتعطيل مستمر للاستحقاقات الدستورية وفي مقدمتها انتخاب رئيس للجمهورية. كما أن البيروقراطية وضعف الإدارة العامة يشكّلان عقبة أمام تفعيل أي برنامج دولي.
هذا بالإضافة إلى غياب إطار قانوني شفاف ينظم الشراكات مع القطاع الخاص، وانقسام سياسي حاد يمنع التوافق على قرارات إصلاحية مصيرية.
فرصة جديدة... هل من يتلقّفها؟
لبنان يقف اليوم أمام تقاطع مفصلي: دعم دولي مشروط، وواقع داخلي هش، وفرصة لإعادة بناء الثقة من خلال خطوات إصلاحية جدية، تقودها حكومة تتعامل بمسؤولية مع المجتمع الدولي والمواطن اللبناني معاً.
دعم البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية ليس مجرد زيارة دبلوماسية، بل رسالة سياسية واقتصادية بأن باب الأمل لا يزال مفتوحاً، شرط أن يتحول الكلام إلى فعل، والتعهدات إلى قوانين، والنوايا إلى مشاريع تنفيذية على الأرض.
فهل يستغل لبنان هذه الفرصة النادرة... أم تُضاف إلى سجلّ الفرص الضائعة؟