إذا لم تكن جولات سفراء "اللجنة الخماسية" وبياناتها، والمهمّة "السادسة" التي قام بها الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لو دريان، واستضافات الدوحة ولقاءاتها، ومكّوكيّات "تكتّل الاعتدال الوطني"، واجتماعات اللجان في المجلس وما يتخللها من تبادل آراء بين النواب، وأخيراً التكليف الحواري الذي يؤدّيه "اللقاء الديمقراطي"، ليست كلّها حواراً أو تشاوراً أو نقاشاً، فكيف يكون الحوار والتشاور والنقاش؟

إنها حوارات فعليّة تحمل وتنقل رسائل وأفكاراً وأوراقاً وإجراءاتٍ وترتيباتٍ وأسماء مفتوحة تتقارب منها المرجعيات السياسية والكتل النيابية أو تتباعد عنها، وتتم مناقشتها والتداول فيها ووضع ال"لا" أو ال"نعم" عليها، وتأكيد بل تكرار المواقف منها عشرات المرّات، فهل تتبدّل بسحر ساحر إذا جلس أصحابها على كراسٍ مرصوفة حول طاولة برئاسة موصوفة وخلفيات معروفة؟ وهل يهبط وحيٌ آخر على الجالس أو تتغيّر آراء الواقف وأفكاره؟

في الواقع، لم تعُد هناك ورقة مستورة في الملفّ الرئاسي اللبناني، وقد تعرّى المصرّون على "طاولة حوار" تسبق انتخاب رئيس للجمهورية من آخر ورقة توت أو تين تستر عورتهم السياسية، فضلاً عن عورة الخطيئة الأصلية في انتهاك الدستور وفرض عرف دخيل عليه إسمه "الحوار المسبق".

فجميع أصحاب السعي والمبادرة من بيروت إلى الدوحة وباريس وواشنطن والرياض ذهاباً وإياباُ، لبنانيين وعرباً وغربيّين، يقفون عاجزين عن اختراق حاجز "الحوار" الذي ينصبه "حزب الله" بإسناد إيراني، ويحرسه الرئيس بري بحجّة أحقّيته بالدعوة والترؤّس وكأنّ مطرقة مجلس النوّاب تخوّله الطَرق عشوائيّاً في كلّ اتجاه، بما هو أوسع من واجبه وحقّه وصلاحياته، وذلك قبل زيارة القائم بأعمال وزارة الخارجية الإيرانية علي باقري كنّي بيروت وضاحيتها، ومعها وبعدها، لاسيما بعد رفض الأخير الاقتراح الأميركي للحل في غزة، في تقاطع مسبوق ولم يعُد مريباً، ولأكثر من مرّة، مع الموقف الإسرائيلي، سواء بتحفّظهما على تسويات الهدنة والرهائن أو برفضهما حلّ الدولتين.

وهو حاجز معزّز بالربط المُحكَم مع حرب غزة والجنوب، خلافاً لما يعلنه ويروّج له "الثنائي الشيعي" بهدف احتواء المساعي والمبادرات وتضليل مسارها الانتخابي، كما فعل النائب محمد رعد مع لو دريان الذي ربّما صدّقه!

حاجز معزّز أيضاً بحملة دسائس لزرع الشكوك، تزوّر حقيقة مواقف المبادرين والأطراف، وتنسب إلى لو دريان وباريس والدوحة وواشنطن والقاهرة كلاماً معكوساً واستنتاجات مجافية كلّياً للواقع، كما تنسب إلى المعارضة والرياض عقدة التعطيل، فتعيّر الآخرين بعيوبها على قاعدة المثَل السائر: "رمتني بدائها وانسلّت".

هذا الاستعصاء الضارب ب"سيف الحوار"، والذي أسقط المبادرات الواحدة تلو الأخرى منذ سنة ونصف السنة، بات يستلزم مقاربة مختلفة لمعالجته، تبدأ بإعلان صريح وشجاع لا مواربة فيه ولا مراعاة، عن مصدره ورافعيّ لوائه، بدون كفوف دبلوماسية وحسابات مصالح خاصة، وتمرّ بحوار دولي فعلي وضاغط مع طهران نفسها، وهي صاحبة الحلّ والربط في التأثير على أذرعها، طالما أن هناك قنواتٍ سالكة معها علناً أو سرّاً، وتنتهي بترشيد أو تقليم النفوذ الإيراني في لبنان وسائر "الساحات الموحَّدة"، خصوصاً بعد الانتكاسات المتلاحقة التي ألمّت بهذا المحور عسكرياً وسياسياً، فبات أكثر قابلية للمساومات وعقلنة الطموحات.

أقصر الطرق إلى الخروج من المأزق هو الدستور

صحيح أن البراغماتية، أو الانتهازية الإيرانية، ستسعى إلى مقايضة أي تسوية مع إسرائيل في جنوب لبنان بمزيد من النفوذ السياسي ل"حزب الله" في السلطة اللبنانية، سواء على مستوى الرئاسة أو ما يليها، لكنّ هناك مطبَّين أمام هذه المقايضة:

الأول هو الميزان الدقيق والصعب في إجراء مقاصّة بين مواقع الدفع والقبض على امتداد رقعة نفوذ "الجمهورية الإسلامية" في المنطقة العربية.

والثاني هو العقبة الكأداء التي تشكّلها حالة "ممانعة" لبنانية وطنية فعلية تتخطّى مفهوم المعارضة السياسية التقليدية إلى الحالة الكيانية الوجودية الرافضة تسويات مفروضة اختبرها لبنان في السنوات العشرين الأخيرة وباءت جميعها بالفشل لأنها استندت إلى ميزان قوى طارىء تحت عنوان "ربط النزاع" مع السلاح غير الشرعي.

وقد أدرك "محور المقاومة والممانعة" مدى صلابة هذه الحالة الوطنية العابرة للطوائف والمناطق، والرافضة تجريب المجرَّب، فبدأ حملات تشويه وتشويش ضدها بتحميلها مسؤولية ضرب المبادرات عبر رفض "الحوار" المريب الذي يتشبّث به.

لكنّ هذه الحملات تنهار أمام حقيقة التعطيل والمعطّلين، ويكشفها تباعاً أهل التجارب والمبادرات، بدءاً ب"الخماسية" و"تكتل الاعتدال"، مروراً بالدوحة وباريس، وصولاً الآن إلى وليد وتيمور جنبلاط و"اللقاء الديمقراطي"، ويراهن المعطّلون على ورقتهم الأخيرة مع واشنطن لعلّها تحمل الترياق في حقيبة آموس هوكستين.

إن جميع هؤلاء السُعاة وفاعليّ الخير يعلمون جيّداً أن أقصر الطرق إلى الخروج من المأزق هو الدستور، ويوجّهون سؤالاً ثقيلاً إلى أهل "متراس الحوار":

إلى متى تستطيعون التحصّن خلف متاريسكم أو الهروب إلى الأمام؟