خبت المزايدات على حماية "الأمن الغذائي" تحت "نار" استمرار استيراد آلاف الأطنان من القمحِ بقروض البنك الدولي. فالخشية من فقدان الغذاء بداية الانهيار الاقتصادي المترافق مع تقطع سلاسل التوريد بسبب جائحة كورونا، سعّرت الحملات لتأمين كفاية المقيمين من الإنتاج الزراعي الوطني، ولا سيما الأساسي منه، كالقمح. إلّا أنّ واقع هذه الزراعات عاد أسوأ ممّا كان عليه قبل الانهيار. فالشعارات الصارخة امتصتها جبال حماية "الكارتالات"، ولم يتردّد صداها في حقول المزارعين.

الإعلان عن حماية القمح الوطني بوصفه سلعة إستراتيجية، يلعب دور "مدماك الزاوية" في حماية الأمن الغذائي، وهو لم يتوقّف يوماً. وجديده جولة تفقدية لوفد مشترك من وزارة الزراعة والمركز العربي لدراسة المناطق الجافة "اكساد"، ومنظمة "الفاو" للحقول المزروعة بالقمح الطريّ في سهول بعلبك. إذ تهدف الزيارة التفقّدية إلى تبيان "أولوية وزارة الزراعة الإكثار من المساحات المزروعة بالقمح الطريّ الذي يمتاز بإنتاجه الوافر، والذي يدخل في صناعة الخبز"، بحسب تصريح رئيس مصلحة زراعة بعلبك الهرمل الدكتور عباس الديراني. "وذلك انسجاماً مع خطة الوزارة الإستراتيجية الرامية إلى توفير الأمن الغذائي للبنانيين". وكانت "اكساد" قد أمّنت للمزارعين للعام الثاني على التوالي بذور قمح طريّ معرّفة بالرقم 1133، "في إطار خطة إستراتيجية ترمي إلى الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من القمح في لبنان"، بحسب مصادر "المركز".

الواقع يخالف الآمال

الصورة على أرض الواقع تبدو مختلفة كلياً، عن البيانات الإعلامية والتصريحات الصحافية. فـ"المزارعون يتلقّون بذور القمح الطريّ متأخّراً، وبعد أن يكون موسم الزراعة قد انتهى"، بحسب رئيس نقابة مزارعي القمح نجيب فارس. "وتعطى كميات زهيدة من البذار مقارنة بالحاجة الفعلية. فينال كلّ مزارع مثلاً 50 كيلوغراماً من البذار، لا تكفي لزراعة أكثر من دونمين". وأساساً، "لا مصلحة لأكثرية المزارعين في زراعة القمح الطريّ الذي يستعمل بشكل أساسي في صناعة الخبز العربي"، برأي فارس، لعدة أسباب منها:

- إحجام الدولة عن شراء المحصول، وتذرّع أصحاب المطاحن كلّ عام بحجة جديدة مثل نقص البروتين أو وجود أمراض فطرية أو تعفّن...

- تدنّي أسعاره مقارنة بالقمح القاسي.

- عدم السماح بتصديره إلى الخارج.

- رفع الدعم عن القمح الطريّ مقابل استيراده بأسعار أعلى من الخارج.

- تكبّد المزارعين عاماً بعد آخر مشقّة التواصل مع المسؤولين والتوسط لشرائه بأبخس الأثمان بعد أشهر من الحصاد وتخزينه.

- ضآلة الكميات المنتجة.

- عدم ملاءمة المناخ الرطب.

المزارعون، ولا سيما في السهول البقاعية والعكّارية، لم يتوقّفوا يوماً عن زراعة القمح برغم كلّ الصعاب والمشقّات. والغاية ليست تطبيق الإستراتيجيات الزراعية "الوهمية" على حدّ قولهم، إنّما استكمال الدورة الزراعية، أي تناوب محاصيل مختلفة على قطعة أرض واحدة. إذ تعتبر الدورات الزراعية من العناصر المهمّة في زيادة الإنتاج وتحسين خصوبة التربة. كذلك تعتبر إحدى مزايا الزراعة الحديثة، وإن كان السابقون قد طبّقوا مبادئها تطبيقاً عملياً من دون الإلمام بحقيقة هذه المبادئ.

المعوّقات

يروي أهل الأرض أنّ الموروث الشعبي القائل إنّ البقاع كان يمثّل "إهراءات روما" للإشارة إلى أن وفرة إنتاج القمح من السهل لم تعد ممكنة اليوم. وخصوصاً في ما يتعلّق بالقمح الطريّ. وذلك ليس بسبب التبدّلات المناخية والعمرانية فحسب، بل كذلك بسبب التبدلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدولية أيضاً.

اجتماعيّاً، لم يعد سهل البقاع سهلاً واحداً مترامي الأطراف من الجنوب إلى الشمال، إنّما تحوّل ملكيات صغيرة تمتاز بارتفاع كلفة تضمينها مقارنةً بالمتوسط العالمي والأسعار المعتمدة في دول الجوار. فعلى سبيل المثال، يكلّف ضمان الدونم الواحد من الأراضي 140 دولاراً، في حين أنّ متوسّط كلفة ضمان الأرض في روسيا أو أميركا هو 10 دولارات، و20 دولاراً في سوريا. وعليه، فإنّ ارتفاع كلفة ضمان الأرض في لبنان ترفع كلفة الإنتاج بشكل هائل وتقلّل من إمكان منافسة القمح المحلّي للقمح العربي والأجنبي.

اقتصاديّاً، يعاني المزارعون من ارتفاع الكلفة الانتاجية. فمتوسط انتاج الكهرباء المستعملة لتشغيل مضخّات الريّ يتجاوز 30 سنتاً للكيلوواط ساعة، في حين لا يتعدّى 13 سنتاً بالمتوسط العالمي. والمحروقات والبذار والأسمدة والأدوية الزراعية والمعدّات كلّها مستوردة من الخارج وتباع بالدولار النقدي. وتشهد أسعار اليد العاملة ارتفاعاً كبيراً، حتّى مقارنةً بسنوات ما قبل الانهيار الاقتصادي.

سياسياً، تحجم الدولة منذ سنوات عن دعم زراعة القمح وشراء المحاصيل بأسعار تشجيعية دعماً للمزارعين وتحفيزاً لهم بغية الاستمرار في زراعة القمح بوصفه سلعة إستراتيجية مهمة. ففي الماضي، كانت الدولة تشتري طنّ القمح بسعر أعلى بمئة دولار من السعر العالمي. وهذا ما شجّع المزارعين على استثمار المزيد من الأراضي وزيادة الإنتاج. في حين أنّ ذلك كلّه توقّف بشكل شبه تامّ منذ العام 2018. في المقابل، تمّ تسعير طن القمح في سوريا هذا العام بـ5500 ليرة أي 380 دولاراً، تشجيعاً للمزارعين.

أمّا دولياً فإنّ المزارع اللبناني محروم من إمكان بيع الإنتاج في الأسواق العالمية على أساس أنّ الإنتاج إستراتيجي وطني. ويتعرّض المزارعون لخسائر ليس بسبب ضعف القدرة التنافسية فحسب، بل كذلك نتيجة تبدّل الظروف العالمية والأسعار . "ففي العام الماضي خسر المزارعون 40 دولاراً في كل دونم مزروع"، يقول فارس. "وشهدت الأسعار العالمية هذا العام انخفاضاً كبيراً، إلى متوسط 250 دولاراً للطن. وهذا ما دفع المزارعين إلى الإحجام عن زراعة القمح، وخصوصاً الطريّ منه.

يبدأ المزارعون بزراعة القمح في الشهرين الأخيرين من العام، ويبدأ الحصاد في منتصف العام. وهم بمعظمهم زرعوا القمح القاسي هذا العام. لأنّه الأكثر مواءمة مع نوع التربة وطبيعة الطقس، والأقلّ تعرّضاً للأمراض الفطرية. يبيعون قسماً منه محلّياً إلى مصانع "المعكرونة" التي بدأت تنتشر على نطاق واسع وتلاقي رواجاً، ويصدّرون الجزء الآخر إلى الخارج بعد حصولهم على استثناءات من وزارة الاقتصاد. ويتمنّى المزارعون على المعنيين تطبيق واحد من حلّين إذا كانوا يريدون حقاً حماية زراعة القمح وتطوير الإنتاج: إمّا تخفيض كلفة تضمين الأرض. وإمّا شراء المحصول بسعر تشجيعي مدعوم، لا يقلّ عن 325 دولاراً للطن. وبهذه الطريقة يطوّرون الزراعة ويبقون الدولارات في الداخل بدلاً من تسديدها مضاعفة للخارج ثمن القمح المستورد.