في تطور جيوسياسي كبير، تستكمل دول منطقة الساحل جنوب الصحراء التي تمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، الانقلاب على الوجود الغربي مع إلغاء النيجر اتفاق التعاون الأمني مع واشنطن والطلب من القوات الأميركية الموجودة هناك الرحيل، بينما كانت طلائع ما يسمّى "فيلق أفريقيا" الذي أسسته روسيا على أنقاض شركة "فاغنر" الأمنية الخاصة تصل إلى مطار نيامي.

منذ الانقلابات العسكرية التي شهدتها منطقة الساحل اعتباراً من عام 2020 أولاً في مالي ومن ثم في بوركينا فاسو وبعدها في النيجر، بدأ التوتّر يطغى على علاقات هذه الدول مع فرنسا التي كانت تنشر خمسة آلاف جندي في إطار "عملية برخان" لمكافحة التنظيمات الجهادية في المنطقة منذ عام 2012. وقطعت هذه الدول روابطها العسكرية التقليدية بالدولة المُستعمِرة السابقة، وراحت توطّد علاقاتها بروسيا عبر شركة "فاغنر" التي كان يقودها يفغيني بريغوجين حتّى مقتله الصيف الماضي في تحطّم طائرته الخاصة في الأجواء الروسية، بعد محاولة تمرد على الكرملين في حزيران الماضي. و"فاغنر" التي انضم الكثير من مقاتليها إلى "فيلق أفريقيا" تعمل الآن بإشراف مباشر من وزارة الدفاع الروسية.

وفيما بدا أنّ الوجود العسكري الأميركي في النيجر غير مرتبط بالوجود الفرنسي هناك، حاولت الولايات المتحدة إقامة نوع من العلاقات الطبيعية مع المجلس العسكري بقيادة الجنرال عبد الرحمن تياني، ولم تبدِ واشنطن حماسة للإنذارات التي وجّهتها مجموعة غرب أفريقيا الاقتصادية "إيكواس" إلى المجموعة العسكرية كي تعيد الرئيس المخلوع محمد بازوم صديق فرنسا والغرب إلى الحكم.

وسيعني الانسحاب العسكري من النيجر "بأثر فوري" إغلاق قاعدة المسيّرات المعروفة بـ"القاعدة 201" في منطقة أغاديز في الصحراء، والتي افتتحتها الولايات المتحدة عام 2018 بتكلفة 110 ملايين دولار، ويديرها أكثر من ألف جندي. وهذه القاعدة هي من المنشآت الرئيسية للولايات المتحدة والتي لعبت دوراً محورياً في مواجهة التنظيمات الجهادية في منطقة الساحل، وكانت منطلقاً لهجمات ضد تنظيم "داعش" في ليبيا عام 2019.

إنّ حلول روسيا محلّ فرنسا وأميركا في دعم دول الساحل عسكرياً، يلقي على الكرملين مهمّة شاقة في تقديم دعم فعال من أجل تمكين هذه الدول من مكافحة التنظيمات الجهادية

وفي الأشهر الأخيرة، بذل مسؤولون أميركيون جهوداً من أجل إنقاذ اتفاق التعاون الأمني مع النيجر، لكنّ هذه المحاولات باءت بالفشل مع إعلان المجلس العسكري الحاكم في نيامي في 15 آذار أنّ الوجود العسكري الأميركي في النيجر "لم يعد شرعياً". وكان على الولايات المتحدة التسليم بالأمر الواقع عقب المباحثات التي أجراها رئيس وزراء النيجر الأمين زين في واشنطن في نيسان.

وكان المفاجئ أنّ الولايات المتحدة أعلنت بعد ذلك أنّها ستعيد النظر في وجودها العسكري في تشاد، الدولة الأخرى في منطقة الساحل بناءً على طلب من حكومة نجامينا. بيد أنّ الانتشار العسكري الأميركي في تشاد يقتصر على مئة جندي فقط. وليس هنالك مؤشّرات على أنّ هذا القرار مرتبط بتوسّع النفوذ الروسي في هذا البلد، الذي لا تزال فرنسا تحظى فيه حتى الساعة، بنفوذ عسكري وسياسي واضحين.

واتخذ التنافس الروسي-الغربي في منطقة الساحل منحى تصعيدياً يذكّر بأيام الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، عندما كان الجانبان يخوضان نزاعاً شرساً من أجل السيطرة على مقدرات القارّة السمراء. وغذّت واشنطن وموسكو وقتذاك حروباً وصراعات داخل الدول الأفريقية، وحتّى حروباً أهلية داخل هذه الدول على غرار ما جرى في الكونغو أيام باتريس لومبومبا في الستينيات، ومن بعدها في أواخر السبعينيات في الصومال وأثيوبيا وأنغولا.

واليوم، يتجدّد هذا النزاع مع الصراع على أوكرانيا. ودائماً تبقى أفريقيا التي يحتاجها الجانبان في المواجهة الشاملة بينهما، في قلب الأحداث الدولية. وعندما زار رئيس وزراء النيجر موسكو في كانون الأول الماضي، أعقب ذلك بزيارة لطهران في كانون الثاني حيث التقى الرئيس ابراهيم رئيسي.

ويبدي المسؤولون الأميركيون قلقهم من أنّ موسكو عينها على ثروات دول الساحل من أجل تمويل الحرب في أوكرانيا، بينما يخشون من أن يؤدّي تطوير إيران العلاقات مع النيجر، إلى حصول طهران من النيجر على اليورانيوم الذي تحتاجه لبرنامجها النووي.

إنّ حلول روسيا محلّ فرنسا وأميركا في دعم دول الساحل عسكرياً، يلقي على الكرملين مهمّة شاقة في تقديم دعم فعال من أجل تمكين هذه الدول من مكافحة التنظيمات الجهادية، التي تخوض حرب استنزاف ضدّ الحكومات المركزية منذ أكثر من عقد.

ولا تتعلّق المسألة فقط بالتعاون العسكري في مواجهة الجهاديين، وإنّما سيقع على عاتق موسكو دعم هذه الدول اقتصادياً، لأنّها ستواجه حصاراً غربياً مع تغلغل النفوذ الروسي.

لا ريب أنّ الغرب الذي تلقّى هزيمة إستراتيجية في منطقة الساحل، يبحث الآن عن ساحة أخرى لتوجيه ضربة فيها إلى النفوذ الروسي المتصاعد في أفريقيا.