انتظر لبنان كعادته استقبال أبنائه المغتربين والسياح العرب والأجانب في ربيع العام 2024. الآمال لم تكن كبيرة على الرّغم من تزامن عيدي الفصح والفطر مع فرصة الربيع في العديد من الدول. فـ "الأجواء غير ميسّرة"، على حسب قول أحدهم، ككناية، أراد منها إصابة "عصفوري" الوضع الأمني المهتزّ، وارتفاع كلفة الطيران، بـ "حجر" الإحجام عن القدوم إلى لبنان خلال هذه الفترة.

بحسب الأرقام، بيّنت حركة المطار في الفصل الأول من العام الجاري تراجع عدد الركّاب بنسبة 7 في المئة، وانخفاض عدد الرحلات الجوية من لبنان وإليه حوالى 12 في المئة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وكان شهر آذار الماضي قد سجّل تراجعاً في أعداد الركّاب عبر المطار بنسبة 12.5 في المئة وبلغ 408 آلاف و625 راكباً، مقابل 466 ألفاً و956 راكباً في آذار 2023.اذ تراجع عدد الوافدين إلى لبنان بنسبة 8.45 في المئة في آذار، وبلغ 214 ألفاً و951 راكباً، كما تراجع عدد الركاب المغادرين بنسبة 16.47 في المئة وسجل 193 ألفاً و473 راكباً.

الاحتكار يرفع الأسعار

إذا وضعنا جانباً الخشية من الحرب التي لا تزال محصورة في جنوب لبنان، ولم تمتدّ ألسنة لهيبها إلى بقية المناطق، فإنّ ارتفاع كلفة الطيران من لبنان وإليه، تعتبر من أكثر العوامل الطاردة للمغتربين والسياح على السواء. ويعود هذا الارتفاع الكبير مقارنةً بغير وجهات، إلى عاملين أساسيين، بحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني، وهما:

- الحماية المعطاة بموجب القانون لشركة طيران الشرق الاوسط (الميدل ايست). وهو ما سمح لها باحتكار الأرض (الخدمات على أرض المطار) والجوّ. ووضع الأسعار بعيداً عن منافسة شركات أخرى.

- ارتفاع رسوم المطار بشكل كبير جداً. إذ تعتبر الرسوم التي تفرض على شركات الطيران في عداد الأعلى في العالم.

هذان العاملان "رفعا كلفة القدوم إلى لبنان بين الضعفَيْن والأربعة أضعاف في كثير من الأحيان، مقارنة بوجهات ملاصقة أو قريبة إلى لبنان كالأردن وتركيا ومصر وغيرها"، يقول مارديني، "وهذا ما فوّت فرصة اجتذاب السياح. إذ لا تتعدى حصّة لبنان من مجمل أعداد السياح القادمين إلى الشرق الاوسط خلال السنوات الماضية الـ 2 في المئة، معظمهم من المغتربين الذين ما زالوا متعلّقين بالبلد وأهله".

المنافسة الوهمية

من يقصد مطار رفيق الحريري الدولي، يشاهد عشرات شركات الطيران العربية والأجنبية المتلاصقة على خط المغادرة. "إلّا أنّ التمعن بطريقة عمل هذه الشركات يظهر بوضوح احتكارها منفردة أو مزدوجة مع الشرق الاوسط الخطوط الجوية إلى العديد من الوجهات"، بحسب مارديني. "إذ لا يطير إلى بعض الدول العربية إلّا "الميدل ايست" منفردة، في حين لا يمكن الوصول إلى العديد من الوجهات الأوروبية إلّا عبر "الميدل ايست" وإحدى الناقلات العاملة في تلك الدول، من دون أن يكون هناك خيار ثالث. وهذا ما يسمح لها برفع الأسعار لعدم وجود أيّ بديل. ويمكن أيّ مسافر من إحدى الدول الاوروبية أو حتّى العربية ملاحظة الفرق الكبير بين كلفة بطاقة السفر إلى لبنان وسعرها إلى تركيا. فبسعر بطاقة سفر واحدة من الدول الأوروبية إلى لبنان، يمكن السائح السفر إلى تركيا وتمضية بضعة أيام. فأيّ وجهة يختار؟

ارتفاع كلفة الإقامة وتلبية المتطلبات

بالإضافة إلى ارتفاع اسعار بطاقات السفر، "يعدّ لبنان بلداً مرتفع الكلفة"، بحسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. "وهناك فرق كبير بينه وبين الدول السياحية المجاورة كالأردن ومصر تركيا في أسعار الإقامة الفندقية والنقل وأسعار المطاعم وبقية الخدمات". ووفقاً للمسح المعياري لفنادق إرنست ويونغ في الشرق الأوسط، فإنّ متوسّط سعر الغرفة بعملة الدولار في لبنان ارتفع في العام 2023 إلى 149 دولاراً، وبنسبة بلغت 192.4 في المئة. في المقابل يُظهر المسح تراجع نسبة الإشغال في فنادق بيروت من فئة 4 و5 نجوم إلى كانون الأول 2023 إلى 41 في المئة، مقارنة بـ48.4 في المئة للفترة نفسها من العام 2022.

ارتفاع الحجوزات في فترة الأعياد لا يعبّر عن واقع الحال

التراجع في نسبة إشغال الفنادق استمرّ مطلع العام الجاري "ليصل إلى ما بين 10 و15 في المئة قبل موسم الأعياد"، بحسب مصادر نقابة مؤسسات السياحة البحرية. في حين شهدت نسبة الإشغال ارتفاعاً ملحوظاً ما بين عيدي الفصح والفطر محقّقة بين 50 و60 في المئة في بيروت. إلّا أنّ احتساب نسبة الإشغال على أساس العدد الإجمالي للغرف الفندقية وليس تلك الموضوعة فعلياً في الخدمة يخفّض نسبة الحجوزات إلى أقلّ من 30 بالمئة. ذلك أنّ فنادق عدة أقفلت خلال الفترة الماضية طوابق وأجنحة من أجل تخفيض تكاليف الصيانة والخدمات والطاقة، وأبقت على عدد محدود من الغرف يجاري حركة الطلب. ومن المتوقّع أن يكون العدد الفعلي للغرف الموضوعة في الخدمة الفعلية أقلّ كثيراً عن 22 ألف غرفة المقدّر وجودها في لبنان كله.

بالإضافة إلى ارتفاع اسعار بطاقات السفر، "يعدّ لبنان بلداً مرتفع الكلفة"

السوق تحدّد الأحجام

إذا كان من الصعب التأثير في مجريات الحرب، أو تخفيض التكاليف التشغيلية سريعاً في القطاعات السياحية، "فمن الممكن بسهولة فتح قطاع الطيران على المنافسة، وإزالة الحماية التي تتمتّع بها "الميدل ايست". وهذا ما يؤدّي حكماً إلى انخفاض كلفة السفر إلى لبنان، وارتفاع أعداد القادمين، خصوصاً من اللبنانيين المغتربين أو المهاجرين، من الأماكن البعيدة والقريبة"، يقول مارديني. أمّا التذرع بعدم قدرة السوق اللبنانية الصغيرة نسبياً على تحمّل أكثر من شركة الطيران، فهو "غير منطقي"، من وجهة نظر مارديني. "فالسوق وحدها، تلقائياً من دون تدخّل من أحد، تحدّد قدرتها على استيعاب شركات إضافية من عدمه. فإن ثبت صحّة ما يدّعيه البعض بإشباع "الميدل ايست" السوق الصغيرة، لاستمرار حماية احتكارها، لا يعود هناك من حاجة إلى حماية الطيران قانونياً. وفي حال العكس، أي دخول مستثمرين جدد على القطاع، يثبت أنّ السوق غير مشبعة، وهناك فرص جدية للاستثمار الذي يؤدي حكماً إلى تراجع الأسعار وتحسّن تقديم الخدمات". وفي الحالتين يكون الاقتصاد هو الرابح. لأنّ كلفة الريع الاحتكاري "Monopoly rent" (الربح بملايين الدولارات) الذي تحققه "الميدل ايست"، المنضوية تحت جناح مصرف لبنان، نتيجة غياب المنافسة وتحكّمها بالأسعار، تحرم الاقتصاد من مليارات الدولارات التي تدخلها السياحة وتستفيد منها كلّ القطاعات.

إجراءات جوهرية بديهية متناغمة مع بديهيات الاقتصاد الحر قد تصنع كلّ الفرق في مستقبل لبنان. فيكفي الاقتصاد هذا التسلّط على المرافق العامة بحجّة حماية الملك العام، في حين أن الغاية الحقيقية هي تحقيق المصالح الشخصية بعيداً من منفعة المواطن والاقتصاد.