فوجئ المودعون بتكليف مجلس الوزراء وزارة المال ومصرف لبنان "إجراء المقتضى المناسب لاستجابة طلب جهات محدّدة "تحرير" أموالها من المصارف". فأسلوب صوغ القرار الذي حمل الرقم 24، تاريخ 4 نيسان 2024، يوحي من حيث الشّكل أنّ الأزمة العامة انتهت، وبدأ البحث في التفاصيل الدقيقة لكيفية إعادة الودائع، في حين أن الغوص في سطور القرار القليلة لا يظهر مخالفته للدستور فحسب، إنّما تقصّده رمي "قنبلة دخانية" لإخفاء العجز عن اتخاذ الخطوات الفعلية للخروج من الانهيار.

في 2 نيسان الجاري، رفعت وزارة المال كتاباً إلى مقام مجلس الوزراء، تعرض فيه طلب جهات تحرير أموالها من المصارف. وتتوزّع بين جهتين لديهما حسابات في مصرف لبنان وهما: الجيش اللبناني والهيئة العليا للإغاثة، وجهتين لديهما حسابات مفتوحة في المصارف الخاصة، وهما: الاتحاد البرلماني العربي ومنظمة الأسكوا.

قطب مخفية في قرار الحكومة

أكثر ما يلفت الانتباه في طلب وزارة المال تأكيدها أنّ:

* سحب الأموال أو تحويلها سيكونان بالليرة اللبنانية، وليس بعملة الإيداع وهي الدولار. خصوصاً بالنّسبة إلى ودائع الهيئة العليا للإغاثة المتأتّية من هبات خارجية من سلطنة عمان ودولة الكويت. إذ ينصّ الكتاب على أنّ المصارف تفرض قيوداً على عمليات السحب والتحويل بـ "الدولار الأميركي المحلّي"، للأموال المودعة في الحسابات المصرفية. وما يقصد بالدولار المحلي هو "اللولار" الذي ما زال سعر صرفه إلى اليوم 15 ألف ليرة لكلّ دولار، وبـ "هيركات" 83.4 في المئة.

* اعتبار أنّ الجهات صاحبة الحسابات المصرفية الموجودة في المصارف الخاصة (الاتحاد البرلماني العربي، الاسكوا) لا يحقّ ضمانها من أموال الخزينة العامة. وهو ما يعني بديهياً أنّ الودائع بمصرف لبنان ستعوّض من الخزينة. ويقول طلب الوزارة صراحة إنّ الودائع في المصارف الخاصّة لا يمكن تعويضها من المال العام. فهل يكون القرار مقدّمة لتحميل المصارف خسائر الفجوة المالية بقيمة 80 مليار دولار المودعة في مصرف لبنان؟

القرار يخالف الدستور

"استجابة مجلس الوزراء لكتاب وزارة المال، وتكليفها مع مصرف لبنان إيجاد الطريقة لتلبية الطلبات يخالف الفقرة (جـ) من مقدمة الدستور"، يقول الناشط الحقوقي الدكتور جاد طعمه. "لأنّه يضرب مبدأ المساواة بين المواطنين". إذ ينصّ الدستور اللبناني بالحرف: "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز او تفضيل". وإذا كان المقياس في "تحرير" الودائع تحقيق المصلحة العامة، "لماذا نستثني إذاً، من إرجاع الودائع صناديق نقابات المهن الحرة؟"، يسأل طعمه، ويجيب أنّ "تحليل القرار يأخذنا في عدّة اتجاهات، فيمكن أن يكون لعبة سياسية للإيحاء أنّ حلّ أزمة الودائع قد بدأ فعلياً. ويمكن أن يكون لاسترضاء فئة من المودعين أو جهات محدّدة على قاعدة أنّ الحكومة تسعى إلى تحسين أوضاعها". ولكن في المقابل من الواضح منذ بداية الانهيار أنّ "المصارف رافضة بأيّ شكل من الأشكال تسهيل سحب الودائع سواء لجهات فردية أو عامّة تهدف إلى تحقيق مصالح المجتمع"، يؤكّد طعمة. "وجمعية المصارف التي "تدلّعت" قضائياً منذ بداية الأزمة، ولا تزال، هي بمنأى عن المحاسبة والرقابة القضائية. وقد "أمنت العقاب، فأساءت الآداب"، من خلال إصرارها على تحميل الدولة مسؤولية التعويض عن استثمارات المصارف في الديون البغيضة، أي الديون العالية المخاطر"، ويقصد بها طعمة استثمار الودائع في مصرف لبنان التي بدّدتها الهندسات المالية وإقراض الدولة ودعم الليرة.

استنفاد ما تبقى من ودائع بشكل استنسابي

نقدياً، يشكّل إرجاع الودائع بالدولار لجهات معيّنة، استنساباً غير اقتصادي أو نقدي. في حين تطرح إعادتها بالليرة اللبنانية مشكلة كبيرة. لأنّ الليرات، بكل بساطة، غير متوافرة، والدليل وصول فائدة الأنتربنك على الليرة (فائدة الاقتراض بين المصارف لآجال قصيرة) إلى نحو 150 في المئة نتيجة ندرة الليرات. "وأيّ عودة إلى التوسّع بطبع الليرات من أجل ليلرة الودائع الدولارية، أو تسديد الودائع بالليرة ستؤدي إلى عودة الطلب على الدولار بشكل كبير. وبالتالي انخفاض سعر صرف الليرة، وارتفاع الأسعار والتضخم"، يقول رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمجموعة I&C Bank جان رياشي. أمّا مصدر الخشية الأكبر، برأي رياشي، فيتمثّل بـ "تسديد الودائع بالدولار لهذه الجهات ممّا تبقى من التوظيفات الإلزامية في مصرف لبنان، والتي تعود إلى كلّ المودعين، وليس إلى جهة بعينها. وهذا ما يعني تفويت فرص حصول المصارف والمودعين على أموالهم من مصرف لبنان، مقابل معاملة تفضيلية لفئات معيّنة. وهذا القرار سيكون سياسياً بامتياز". ولا علاقة له تالياً بأيّ إصلاح اقتصادي أو نقدي كفيل بإيجاد الحلّ المناسب لأزمة الودائع على قواعد شفافة وعادلة.

من الجهة المقابلة، تطرح إعادة الودائع الدولارية بالليرة، سؤالاً عن سعر الصرف الذي ستعاد على أساسه. فسعر الـ15 ألف ليرة المعمول به يمثّل اقتطاعاً "هيركات" بنسبة 83.4 في المئة. ولا أحد يرضى به. ومن غير المستبعد، بحسب رياشي، وضع سعر صرف سياسي آخر أعلى لفئات محددة من أجل سحب ودائعها. وهذا سيشكّل تمييزاً ضاراً بين هذه الفئات وبقية المودعين، وتهديداً للاقتصاد والتضخّم وارتفاع سعر صرف الدولار.

مرة جديدة تثبت الأزمة اللبنانية أنّ الاستنسابية غير القانونية ستبقى هي الوجهة المسيطرة على كلّ القرارات الحكومية إذا لم يتم الالتزام بخطّة منصفة ترضي المنطق قبل أن ترضي فئات محددة. وكما جرى تمييز بعض المودعين من خلال السماح لهم بإخراج ودائعهم مع بداية الأزمة على حساب الأكثرية، ستستمر المحاولات لتمييز بعض الفئات على حساب المجتمع كله.