لبست الأسواق التجارية حلّة الأعياد، ومضت تنتظر من "يجبر خاطرها" بشراء ما تقدّمه من سلع، تحوّلت بفعل الأزمة إلى كماليات.

تزامنُ عيدَي الفصح المجيد والفطر الكريم مع فرصة الربيع، كان يشكّل في الماضي القريب موسماً تجارياً بذاته، يضاهي أشهر التسوق الغابرة، ومواسم الصيف الواعدة. إلّا أنّ انهيار القدرة الشرائية عند المواطنين اللبنانيين، وارتفاع الأسعار، وإحجام المغتربين عن القدوم هذا العام بسبب المخاطر الأمنية، عوامل حرمت القطاع التجاري من تنفّس الصعداء بعد سنوات عجاف نتيجة الأزمات.

المبيعات متدنية

للسنة الخامسة على التوالي حالت ظروف قاهرة دون استعادة الأسواق التجارية جزءاً من نشاطها. "وعلى الرّغم من الدولرة الشاملة للأسعار التي أمّنت الاستقرار في الأسواق وحمت التجار من تقلّبات سعر الصرف، فقد أتت التطورات الحربية المترافقة مع فقدان الاستقرار السياسي لتفوّت على الأسواق فرصة الاستفادة من المناسبات"، يقول رئيس جمعية تجار سوق بربور رشيد كبي. "فتراوحت نسبة المبيعات بين 20 و25 في المئة أقلّ مما كانت عليه قبل العام 2020، ولو أنها شهدت تحسّناً ملحوظاً عن سنوات ما بعد الانهيار. إذ تراجعت المبيعات بشكل دراماتيكي بين 2020 ومنتصف 2023، بسبب فقدان الرواتب في القطاعين العام والخاص لقيمتها الشرائية، وإحجام المستهلكين عن تسوّق كلّ ما ليس ضروري أو يمكن تأجيله، واتجاههم نحو السلع متدنية السّعر".

المنافسة من online

بالإضافة إلى تراجع المبيعات، والتأثّر سلباً بالعوامل السياسية والأمنية، يعاني التجار المرخّصون من المنافسة المستجدّة في البيع عن بعد عبر الانترنت "online"، بحسب كبي. فالباعة الذي يسوّقون بضائعهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويحمّلون تكلفة التوصيل عبر شركات التوزيع المتخصّصة للشاري، لا يسدّدون الضرائب والرسوم، خلافاً للتجّار من أصحاب المحالّ. "فنحن نملك رقماً في المالية وندفع ضريبة الأرباح ونسدّد الضريبة على القيمة المضافة واشتراكات الضمان"، يقول كبي. "في حين أنّ المتاجرين عن بعد لا يتحمّلون أيّ أعباء". وعلى الرّغم من كلّ إرهاصات الانهيار على جميع المستويات، أراحت الأزمة التجار من عبئين كبيرين: الأول، الشيكات من دون رصيد، إذ أصبح التعامل نقداً. والثاني، تراجع بعض المصاريف التشغيلية المتعلّقة بأجور العمال وبعض أنواع الرسوم.

انتعاش أسواق المطاعم والمقاهي

على النّقيض من الأسواق التجارية التي تتضمّن بشكل أساسي متاجر الملبوسات والأحذية والحلي والمجوهرات، تشهد أسواق المطاعم والمقاهي فورة حقيقية لم تشهدها في سنوات ما قبل الانهيار. فأعداد المؤسسات المطعمية مثلاً في سوق بدارو التجاري زادت بنسبة 30 في المئة أخيراً"، بحسب رئيس لجنة تجار بدارو الدكتور جورج البراكس، فارتفع العدد بذلك إلى نحو 53 مؤسسة بين مطاعم ومقاه وحانات. ويعود سبب الفورة بحسب البراكس إلى ثلاثة عوامل أساسية:

الأول، هو وجود فئة من اللبنانيين لم تتأثر مداخيلها بالانهيار، ظلّت ترتاد المطاعم والمقاهي بشكل كبير، يضاف إليهم السياح والمغتربون في المواسم السياحية والأعياد.

تراجع الزخم من شوارع مشابهة في العاصمة مثل "مونو" و"الاوروغواي ستريت" و"وسط بيروت" لقربها من الأحداث السياسية والأمنية.

الإجراءات الحازمة التي اتخذتها لجنة تجار بدارو على صعيد التنظيم والابتعاد عن المشاكل وعدم إزعاج السكان. فاستطاعت بدارو أن تحافظ على استقلاليتها والسلام والأمان رغم كلّ الخضّات والأحداث، والمواسم السياسية من انتخابات وتحرّكات شعبية وغيرها. وكلّف شركة خاصة الاهتمام بركن السيارات بعيداً عن مواقف الأهالي وسكان المنطقة. وأولت نظافة الشوارع وإنارتها وتنظيم حركة السير الأولوية.

الأسعار لا تساعد

على المقلب الآخر يتذمّر المستهلكون من عودة ارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات. حتّى أنّ نسب الارتفاع فاقت تلك التي كان معمولاً بها قبل الانهيار. وفي الوقت الذي لم يزد فيه الحدّ الأدنى للأجور إلّا 26 مرة، زادت الأسعار أكثر من 60 ضعفاً. إذ بالإضافة إلى التسعير بالدولار النقدي أو بالليرة على سعر صرف السوق، يتذرّع التجار بارتفاع الأسعار بنسب تراوح بين 15 و20 في المئة، بسبب تعطّل الملاحة في البحر الأحمر واضطرار الناقلات القادمة من شرق آسيا إلى دفع تكاليف تأمينية أعلى بكثير، أو الالتفاف حول إفريقيا. ويضاف إلى هذه التكاليف بحسب التجار زيادة الرسوم والضرائب وعودة بدل الإيجارات إلى الارتفاع... وهي كلّها عناصر ينقلها التجار إلى المستهلك النهائي، "رغم أنّها غير مبرّرة في كثير من الأحيان"، بحسب نائب رئيس جمعية المستهلك في لبنان الدكتورة ندى نعمة. "فالتسعير المخالف للقانون بالدولار لم يحدّ من ارتفاع الأسعار كما يدّعي البعض. بل على العكس تظهر مراقبة الأسواق، ولا سيما في ما يتعلق بالمواد الغذائية، استمرار ارتفاع مختلف السلع والمنتجات. وفي ما يتعلّق ببقية المنتجات المستوردة نلحظ تلاعب بالأسعار وزيادة هوامش الربح بنسب غير مقبولة". حتّى أنّه في ظلّ التخفيضات (وهي الموجة التي لم تعد تفارق واجهات المحالّ) لا يتم احترام الطرق المهنية والأصول الأخلاقية. ويعمد الكثير من التجار إلى رفع الأسعار قبل وضع الحسم عليها لتعود كما كانت. "وتعود حالة التلاعب بالأسعار إلى الفوضى الاقتصادية وضعف الرقابة وسواد الاحتكارات"، برأي نعمة. "وعلى الرّغم من إصرار التجار على أنّ المنافسة كفيلة بتخفيض الأسعار، فإنّ الحقيقة على أرض الواقع تظهر أنّ الكثير من التجار يحتكرون البضائع ويفرضون على بقية التجار التسعير بالسعر نفسه".

المشكلة القديمة الجديدة في ارتفاع الأسعار وتراجع المبيعات تترافق اليوم مع تراجع قدرات المواطنين وعجزهم عن تأمين أبسط المتطلّبات الغذائية. إلّا أنّه بالمنطق "لا أحد يخسر ويستمر"، تقول نعمة. "وعليه، فإنّ المؤسسات التي ما زالت مستمرة تحقق من حيث المبدأ والمنطق الربح الكافي الذي يضمن استمرارها. هذا من دون الأخذ في الاعتبار التي تتسع، أو التي تدخل حديثاً إلى الأسواق". وهو ما يقود إلى القول إنّ قلّة في هذا البلد تعمل وتستفيد مقابل أكثرية أصبحت تحت خط الفقر.