في التاسع من آذار 2020 أخذ لبنان القرار بالتخلّف عن سداد سندات الدين المستحقّة بالدولار والمعروفة بـ "اليوروبوندز". وهذا التعثّر يثبت يوماً بعد آخر أنّه لم يكن موفقاً. فالتخلّف عن السداد بني على نيّة إلحاقه بخطّة إصلاحية، ووضعها موضع التنفيذ. وهذا ما لم يحصل. فعُطّلت خطة الإنقاذ المالي التي أقرّتها حكومة الرئيس حسان دياب ووافق عليها الوزراء بالإجماع. ولم تتمكّن الحكومة اللاحقة بقيادة الرئيس نجيب ميقاتي من تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، رغم وضعها خطّتين للإنقاذ المالي والاقتصادي، وتوقيعها اتفاقاً مبدئياً على صعيد الموظّفين مع صندوق النقد الدولي في نيسان من العام 2022.

اليوم، وبعد مضي نحو أربعة أعوام على الانهيار، لم يباشر لبنان، بعدُ، التفاوض مع الدائنين، الذين أصبحوا بمعظمهم خارجيين. فمن أصل أساس الدين الذي يبلغ 30 مليار دولار تحمل المصارف التجارية اللبنانية محفظة سندات بقيمة 2.9 مليار دولار، ويحمل المركزي سندات بقيمة 5 مليارات دولار، والباقي المقدّر بـ 22 مليار دولار هو في يد صناديق استثمار وشركات دولية خارجية. وقد اقتصرت اللقاءات مع الدائنين منذ التاسع من آذار 2020 للاتفاق على إعادة الهيكلة، على لقاء "يتيم" عن بُعد نظّمه الاستشاري "لازارد" عبر تقنية Video call في أيار 2022. هذا الاجتماع عمّق مخاوف الدائنين أكثر مما طمّأنهم على مصير ديونهم. خصوصاً أنّه كان سطحياً، بحسب ما نقلت آنذاك مصادر مطّلعة على محضر الاجتماع، الذي لم يتضمّن رؤية حكومية واضحة عن مصير الديون بشكل عام، وعن مسار الاستدامة المالية وتحقيق النموّ بطريقة تسمح للبنان الإيفاء بالتزاماته إذا تمّت إعادة الهيكلة.

"التعثّر" يعقد الأزمة

"مع خطّة أو بدون خطة، كان يجب على لبنان ألّا يتعثّر فوضوياً عن سداد ديونه بالعملات الأجنبية"، يقول الخبير المصرفي نيكولا شيخاني. "فالبلد كان أساساً يعاني عجزاً مزدوجاً في الخزينة وميزان المدفوعات، ويفتقد قدرة الوصول إلى التدفّقات الخارجية بالعملة الأجنبية. وهذا يعني أنّ التخلّف عن السداد، في أيّ وقت من الأوقات، يقود إلى العجز المطلق عن إمكان الإيفاء في المستقبل، ويهدّد باستنساخ تجربة بعض الدول التي اتبعت المسار نفسه مثل الأرجنتين وفنزويلا اللتين تتخبّطان منذ سنوات في الديون من دون أيّ أمل بالتعافي". وأدّى التخلّف عن سداد سندات الدين بالعملة الأجنبية إلى تخفيض تصنيف لبنان من قبل وكالات التصنيف الدولية الأبرز "موديز"، "وستاندرد آند بورز"، و"فيتش" إلى أدنى المراتب "SD"، أو التخلّف الانتقائي، وأقصى لبنان عن الأسواق المالية الدولية. كما لحق بالودائع في المصارف "هيركات" بقيمة 20 مليار دولار، ذلك أنّ قطاع المصارف ومصرف لبنان كانا يحملان قبل الانهيار سندات بقيمة 20 مليار دولار (بدأت المصارف بتسييل حصّتها من السندات منذ العام 2019، حتّى وصلت راهناً إلى 2.9 مليار دولار). وعليه، أثرّ التعثّر سلباً في الاقتصاد وأفقد الثقة بلبنان.

تبذير الأموال على الدعم وإغراق الاقتصاد

في "حمأة" الغضب الشعبي العارم، والخشية على ما تبقّى من احتياطيات بالعملات الأجنبية (كانت تناهز 50 مليار دولار مع الذهب) اتّخذ القرار بالتخلّف عن سداد السندات الاجنبية إفساحاً في المجال أمام إعادة الهيكلة لتخفيض قيمة الدين إلى أقلّ بكثير من 36 مليار دولار تمثّل أصل الدين مع الفوائد. وكان يستحقّ على لبنان خلال العام 2020 دين بقيمة 2.5 مليار دولار موزعةً على ثلاث دفعات: الأولى تستحقّ في آذار بقيمة 1.9 مليار دولار، والثانية في نيسان بقيمة 700 مليون دولار، والثالثة في حزيران بقيمة 600 مليون دولار. تتبعها بطبيعة الحال أقساط سنوية بفائدة تصاعدية تبلغ نحو 8 في المئة إلى العام 2037، من أجل الانتهاء من الدين.

المفاضلة التي حصلت في العام 2020 بين دفع الدين والمحافظة على الأمن الغذائي للشعب اللبناني "كانت مخطئة"، برأي شيخاني. وقد أثبتت الأيام أنّ الأموال هُدرت على الدعم والتهريب وصيرفة، ولم تحقّق الغاية المرجوة منها، أي حماية الأمن الاجتماعي للمواطنين، في حين أدّى التخلّف عن السداد إلى كلّ أشكال الفوضى المالية والاقتصادية وعجز لبنان عن استعادة النهوض. واتّضح مع الأيام أنّ مجموعة من الأسباب غرّرت بالمسؤولين لاتخاذ قرار التخلّف عن السداد، متذرعةً بالمصلحة العامة. "في حين تبيّن أنّ القرار كان لمصلحة المراهنين على التخلّف الحاملين سندات CDS، باعتراف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة"، بحسب شيخاني، أو لأهداف أيديولوجية أو لقراءات مخطئة وتضارب مصالح مع الاستشاريين الاقتصاديين، أو تنفيذاً لمخطّط خارجي، أو لكلّ هذه الأسباب مجتمعة".

الحلول متوافرة

من دواعي الأسف أنّه "كان يمكن بسهولة إعادة جدولة الديون من دون إعلان التخلّف عن السداد"، برأي شيخاني. وكان ممكناً أن تقود هذه العملية إلى تخفيض الاستحقاقات السنوية والاتفاق على فائدة مخفّضة جدًا مقارنةً بتلك التي نصّت عليها العقود والتي تبدأ بـ5.8 في المئة وتصل إلى 7.25 في المئة على المستحقات في العام 2037. ولأنّ الندم لا ينفع، على الدولة أن تبادر إلى نزع مسمار السندات بالعملة الأجنبية من كعب قدم الاقتصاد، وهذا لا يتحقّق، برأي شيخاني، إلّا من خلال:

إحصاء حملة سندات اليوروبوندز، وتحديد الدائنين بالاسم والحجم. خصوصاً أنّه ليست معروفة على نحو دقيق الجهات الدائنة من بعد بيع المصارف منذ العام 2019 معظم ما تحمله من سندات، وتبادل السندات بين المستثمرين في الأسواق الدولية.

الاجتماع مع حملة السندات من أجل الاتفاق على إعادة الهيكلة.

تنظيم ما يعرف تقنياً بالاستحواذ لمرّة واحدة " one-time buyout"، فتُعيّن الحكومة موعداً محدداً وسعراً واحداً لشراء جميع السندات من الدائنين. يذكر أنّ قيمة السند الواحد تقدّر اليوم بالأسواق الدولية بأقلّ من 7 سنتات للدولار، أي أنّ قيمة مجموع السندات لا تجاوز المليارين.

الوقت أصبح داهماً. ولم يعد يملك لبنان بعد 4 سنوات على التخلّف عن السداد رفاهية "اللامبالاة". فالدائنون الأجانب لن يتأخّروا في الادعاء على لبنان، ومقاسمة المودعين ما تبقّى من أموال وممتلكات في مصرف لبنان.