وصلت تكلفة رواتب القطاع العام بموجب الزيادات التي أقرّتها الحكومة اللبنانية أخيراً، إلى نحو 130 تريليون ليرة لبنانية سنوياً، أي ما يعادل 1.46 مليار دولار أميركي، ما يشكّل قرابة الـ 45 في المئة من إجمالي حجم موازنة لبنان لعام 2024، التي تتضمن صفر نفقات استثمارية. وهذه ليست المرّة الأولى التي تمثّل رواتب موظّفي القطاع العام النسبة الكبرى من حجم نفقات الدولة. فسلسلة الرتب والرواتب التي أقرّت عام 2017، كلفت لبنان 1.3 مليار دولار، فيما لجأت الحكومات المتعاقبة على مدى الأعوام الـ 11 الماضية، إلى سلف خزينة لتمويل رواتب القطاع العام، وهو ما أسهم في مراكمة الدين العام الذي وصل إلى نحو مئة مليار دولار في العام 2023.  

لبنان لا يحتاج إلى أكثر من 100 ألف موظف 
وإلى ذلك، تحوّل القطاع العام إلى عبء كبير على الدولة، بعدما تخطّى عدد العاملين فيه الـ320 ألف موظف، بالإضافة إلى 120 ألف متقاعد، وعليه، أصبح موظفو القطاع العام يشكّلون 25% من مجمل الأيدي العاملة المصرّح عنها في لبنان مقابل 15% حدّاً أقصى في دول العالم، علماً أنّ لبنان لا يحتاج إلى أكثر من 100 ألف موظف، وفق أرقام الدولية للمعلومات. 

وعليه، أصبح حلّ أزمة "التخمة الحاصلة بالقطاع العام"، ضرورة ملحّة، قبل أيّة عملية تصحيح أجور. فالقسم الأكبر من موظّفي القطاع العام دخل عبر التوظيف الزبائني الانتخابي، بدليل أنّه في انتخابات العام 2018 زاد عدد موظفي القطاع العام 5000! فضلاً عن ذلك، يتقاضى العديد من موظّفي القطاع العام رواتبهم فيما مؤسساتهم متوقفة عن العمل، كموظفي مؤسسة سكك الحديد، على سبيل المثال لا الحصر. 

التوظيف المقنّع 
ورغم إصدار الدولة تعميماً يقضي بوقف جميع حالات التوظيف والتعاقد الجديد في الإدارات والمؤسسات العامّة، بما فيها القطاع التعليمي والعسكري والأمني بمختلف تسمياته واختصاصاته: تعاقد، مياوم، شراء خدمات إلخ، برز في العام 2019 نوع جديد من "التوظيف المقنّع" في عقود التعاقد مع مستشارين وغيرهم، على غرار العام 1996 حين صدر قانون بوقف التوظيف في المرافق العامة. ورغم ذلك، أبرمت عقود تحت مسمّيات عدّة، منها "شراء خدمات" بحجّة حاجة إدارات الدولة إليها، دون الأخذ في الاعتبار جدواها بالنسبة إلى الإدارة العامة، بل لعبت المحاصصة والمحسوبيات الطائفية والحزبية والسياسية دورها كالعادة، فأُبرمت عقود بالملايين مع أشخاص تخلّفوا عن الالتحاق بعملهم، فيما أبرمت عقود مع آخرين بمبالغ زهيدة جداً.  

كذلك تعتبر هيكلة القطاع العام من شروط صندوق النقد الدولي الـ5 الأساسية لمساعدة لبنان، بالإضافة إلى تحرير سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ورفع الدعم عن الاستيراد والسلع والخدمات، وخصخصة الكهرباء، وإعادة هيكلة القطاع المالي. 

حواجز تحول دون إعادة الهيكلة 
قال الخبير الاقتصادي أنطوان فرح لـ"الصفا نيوز": "في الوضع الطبيعي، من الضروري إعادة هيكلة القطاع العام قبل إعطاء أيّ زيادة على رواتب القطاع العام، لكن في ظل ّوضع الدولة الشاذ، وبعد أن أعلنت الأخيرة الإفلاس منذ 4 سنوات ولا تزال مستمرّة على هذ الوضع من دون أيّ خطّة أو رؤية، أصبح من الضروري إعطاء موظفي القطاع العام بعض الزيادات قبل إعادة الهيكلة، المرتبطة بالخطّة الشاملة، إذ إنّ الأخيرة لم تبصر النور بعد، وتالياً لا يمكن استمرار العمل في القطاع العام بدون أيّة زيادات". 

واعتبر فرح أنّ "الزيادات التي أقرّتها الدولة مقبولة، إذ لم تدخل جميعها في صلب الراتب، ليكون هناك إمكانية للتعديل والتراجع يوم إقرار خطّة اقتصادية إنقاذيه شاملة". 

علماً أن إعادة الهيكلة لا ترتبط بدراسة كفاءات الموظفين لإجراء المقتضى (بمعنى المحافظة على الموظف الكفء والاستغناء عن غير الكفء)، بحسب فرح، "إنّما تعني أيضا تأمين توزيع متوازن للموظفين على المؤسسات بحسب حاجة كلّ مؤسسة، لملء الشغور في بعض المؤسسات وخفض التخمة في أخرى، إذ هناك العديد من المؤسسات والدوائر العامّة التي تعاني نقصاً في عدد الموظفين. وبعد إعادة الهيكلة على هذا الأساس، ندخل في مرحلة اختبارات الكفاءة، لاختيار الموظفين، ومعرفة كيفية إعادة توزيعهم. وثمّة معايير دولية يجب أن تؤخذ في الاعتبار ليكون الاقتصاد آمناً، وتقضي بأن لا يتجاوز الانفاق على رواتب القطاع العام الـ25% من موازنة الدولة". 

مصير الموظفين بعد إعادة الهيكلة 
وماذا عن مصير الأفراد الذين قد يصنّفون بأنّهم ليس أكفاء للاستمرار في الوظيفة؟أجاب فرح "يمكن أن نقسّم هؤلاء إلى قسمين، القسم الأول قد يخضع لإعادة التأهيل عبر دورات خاصّة، تسمح له بأن يعمل في ما بعد في القطاعين العام أو الخاص، أمّا القسم الثاني، فقد يتمّ تأهيله للعمل في حِرف أو مهن بعيداً عن التوظيف. وقد يبقى هناك فئة قليلة غير قابلة للتأهيل، ربما ينبغي أولاً دراسة عددهم وتكلفة تأمين راتب تقاعدي لهم أو تعويض محدّد لتأمين معيشتهم وعدم الوقوع في مشكلة اجتماعية". 

 وانتقد فرح "غياب الأرقام والإحصاءات الواضحة والدقيقة حول أعداد موظفي القطاع العام، والمستشارين والمياومين، والمتعاقدين، وهو ما يسبب تفاوتاً كبيراً في الأرقام والتقديرات لتكاليف رواتب القطاع العام، والزيادات التي قد تعطى لهم، وهذه المشكلة تعتبر من أبرز النقاط التي يجب حسمها في مشروع إعادة الهيكلة". وشدّد على أنّ "إعادة الهيكلة تحتاج إلى قرار سياسي شامل لرفع الغطاء عن الجميع، فإذا كانت الحمايات السياسية مستمرّة، فلا لزوم لإعادة الهيكلة إذ نكون قد فشلنا قبل البدء".  

5 سنوات والمسح لم يُجرَ بعد 
وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ الحكومة، مع إصدارها تعميم وقف التوظيف في القطاع العام في الـ2019، التزمت إجراء "مسح وظيفي شامل في إدارات الدولة كافة، ومؤسساتها العامة ومصالحها وصناديقها المستقلة ومجالس الإدارات والمجالس والمؤسسات والمسمّيات التي تُموّل جزئياً أو كلّياً من الدولة، ومسح الملاكات المشغولة والشاغرة، لإظهار الوظائف الملحوظة في ملاكاتها والعدد المشغول منها والشاغر، وتحديد أعداد المتعاقدين والأجراء ووضع رؤية متكاملة عصرية بالتعاون مع مؤسسات استشارية متخصصة ومؤسسات الدولة العامة التي تعنى بشؤون الموظفين (مجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي) على أن تبلغ نسخة عنه إلى المجلس النيابي". 

إلاّ أنّ الحكومة لم تحدّد مهلة لإجراء المسح، وتالياً، فإنّ هذا المسح لم يُنفّذ حتّى الآن برغم مرور 5 سنوات على صدور التعميم.  

التصحيح الوظيفي والأحزاب 
على مقلب آخر، يشرح مصدر اقتصادي لـ"الصفا نيوز" أنّ "موظّفي القطاع العام، عانوا إجحافاً كبيراً على مدى 12 عاماً، إذ لم ينصفوا من الناحية المادية، فسُلّم الرواتب والأجور بقي على ما هو عليه منذ العام 2012 حتى استفحال الأزمة الاقتصادية وقيام التظاهرات والإضرابات التي شلّت الدولة فأعطيت زيادة تحت مسمى حوافز أو انتاجية لم تدخل في صلب الراتب، بل ربطت دائماً بحضور الموظف غير المدعوم إلى عمله، وأعفي من الحضور الموظف المدعوم مع الحفاظ على حقوقه، أمّا غياب المحاسبة والرقابة، فدفع بالموظفين إلى قبول الرشوة، وهو ما رسّخ سياسة الفساد في الإدارات الرسمية". 

ويرى المصدر عينه أنّ "المطلوب اليوم هو عملية تصحيح وظيفي، مع كفّ يد الأحزاب عن القطاع العام، ووقف التمويل العشوائي للمؤسسات غير المنتجة، وغربلة الموظفين عبر امتحانات تأخذ في الاعتبار الكفاءة والإنتاجية، وتستبعد أيّ موظف لديه عمل آخر. إذ هناك العديد من الموظفين الذين لا يداومون في المؤسسات العامة، ويسجّلون حضورهم ويتقاضون رواتبهم، وهم يمارسون وظيفة أخرى".  

وشدد المصدر على أنّ "سقف الهدر كبير جداً، ولا نفقات استثمارية، والجزء الأكبر من إيرادات الدولة يذهب لتمويل رواتب القطاع العام"، منتقداً "المنطق الذي تتبعه الحكومة الحالية، إذ تفرض ضرائب على القطاعين العام والخاص لتمويل رواتب موظّفي القطاع العام، وتالياً، ما تعطيه لهؤلاء تأخذه منهم ضرائب. وهي بذلك تدور في حلقة مفرغة". 
واعتبر المصدر أنّ "كل زيادة تعطى لموظّفي القطاع العام لن تُثمر، إذا لم تضبط الدولة الأسعار، التي ترتفع بعد كلّ زيادة". 
ويستبعد المصدر "إقدام الدولة على إعادة الهيكلة، إذ قد تضرب هذه الخطوة مصالح الأحزاب، التي استخدمت نفوذها وسلطتها لتوظيف انتخابي، ما قد يخسّرها الكثير من الأصوات في الانتخابات ويفقدها جزءاً من شعبيتها".