تنبت السياحة في لبنان كالأزهار الشوكية. كلّما اعتقدنا أنّ القحط السياسي، وعتمة النزاعات، وتسمّم الاقتصاد ستصيبها باليباس، تفاجئنا بالتزهير، متسلّحة بأشواك العزيمة على البقاء والصمود. وهي أشواك تُدمي كلّ يد تمتد للنيل منها عن قصد أو مصادفة.  

تتمثّل قوّة القطاع السياحي اللبناني في المغتربين. فالتراجع الكبير بأعداد السياح الخليجيين والأجانب، منذ نحو عقد ونيّف من الزمن، تعوّضه عودة اللبنانيين المغتربين بمئات الآلاف في العطل والأعياد. فهم أبناء الأرض المعجونون بهمّ الوطن ومشاكله. فلا يرهبهم ارتفاع سقف الخطابات السياسية غير المسؤولة، ولا يصدمهم الانهيار الاقتصادي، ولا تردعهم الخضّات الأمنية والحروب. فيأتون، ويُنفقون الأموال، ويشغّلون القطاعات السياحية ولو بنسب متفاوتة. وعلى غرار كلّ المناسبات بدأت هذا العام تظهر حُجوزاتهم على شاشات وكالات السياحة والسفر لتمضية فرصة عيدي الفصح المجيد والفطر السعيد اللذين يتزامنان مع مطلع شهر نيسان المقبل. 

المغتربون يعودون  


على الرغم من نيران الحرب المستعرة جنوباً، وإمكانية تمدّدها لتحرق الوطن كله بين لحظة وأخرى، "أظهرت البيانات ارتفاع نسبة حجوزات اللبنانيين خلال فترة الأعياد"، بحسب رئيس نقابة أصحاب مكاتب السياحة والسفر جان عبود. "وستكون حركة قدوم اللبنانيين المغتربين خلال الأعياد من كلّ أنحناء العالم. لا سيما الخليج وأفريقيا، وحتى من أوروبا وأميركا وغيرهما". إنّما في المقابل يلاحظ عبود "تراجع حركة قدوم السيّاح بشكل كبيرة، وانحصارها بالقادمين من الأردن والعراق ومصر. مع غياب تام منذ 7 تشرين الأول للسياح الأجانب". إذ عمد السياح من الدول الأوروبية. ولا سيما من دول البلقان والبلطيق كرواتيا وإستونيا ولاتفيا وهنغاريا وبلغارية، إضافة إلى فرنسا وإيطاليا، إلى إلغاء حجوزاتهم. وذلك بعدما شكّلت عودتهم بارقة أمل كبيرة للسياحة اللبنانية يمكن الاعتماد عليها لتشغيل القطاعات في الخريف، وفترات ركود السياحة الموسمية.  

إشغال الفنادق 5 في المئة 


المفعول الإيجابي لعودة المغتربين في عيدي الفصح والفطر، كان ممكناً أن يتضاعف لو لم تقع حرب 7 تشرين الأول في غزة وتمتد إلى لبنان. فالمؤسسات السياحية من فنادق ومطاعم وملاهٍ وشركات تأجير سيارات  وسواها من المرافق بدأت تلتقط أنفاسها في العام 2023 مع دولرة الاقتصاد. وذلك من بعد "كبوة" الانهيار نهاية العام 2019، وأزمة كورونا، وانفجار المرفأ. إلّا أنّ "الفرحة لم تكتمل"، يقول الأمين العام لمؤسسات السياحة البحرية فؤاد فرنجية. "فلم تمتد الفورة السياحية التي شهدها صيف 2023 إلى الخريف والربيع. إذ أدّت الحرب إلى انخفاض الحركة بشكل دراماتيكي، وتراجع نسبة الإشغال في الفنادق إلى ما بين 3 و10 في المئة. هذه النسبة المتدنية يصعب تعويضها في فترة سريعة. ذلك أنّ حجوزات السياح تتم قبل 4 أو 5 أشهر لارتباطها بتنظيم إجازاتهم وخططهم لكيفية تمضية عطلهم. وباستثناء بعض المؤسسات الجبلية التي شهدت حركة استثنائية بالتزامن مع موسم التزلج، فإنّ أغلبية الفنادق فرغت من روادها، منذ خريف العام الماضي وصولاً إلى ربيع هذا العام. وهي لن تتأثر إيجاباً بحركة قدوم المغتربين كونهم ينزلون في منازلهم ولا يحجزون فيها. وبالأرقام، تراجعت نسبة الإشغال في الفنادق هذا العام بنسبة 80 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. إذ راوحت نسبة الإشغال بين 50 و 70 في المئة.  

الدولة تأخذ ولا تعطي 

في الوقت الذي يعاني فيه القطاع السياحي من تراجع الإشغال، أتت موازنة 2024 لتثقله بالمزيد من الرسوم والضرائب بالدولار النقدي. فبعض المؤسسات السياحية البحرية الكبيرة، تكبّدت هذا العام ملايين الدولارات كرسوم إشغال على الأملاك العمومية. "ومنها مؤسسات أجنبية عريقة بدأت التفكير جدياً في مغادرة لبنان نظراً لفقدان الاستثمار جدواه"، يُفصح فرنجية. "فهي تنفذ واجباتها تجاه الدولة وتدفع الرسوم بنسبة مرتفعة جداً بالدولار النقدي وتقوم بكلّ ما يطلب منها. لكنها في المقابل لا تأخذ أبسط حقوقها من الدولة كتأمين جو ملائم وصحي للاستثمار، وقطاع عام فاعل، وقضاء نزيه وبنى تحتية مؤهلة من طرق وكهرباء ومياه ونظافة البحر والشواطئ". وبحسب فرنجية فإنّ "المعاملة السيئة للمؤسسات السياحية البحرية سترتد سلباً على الاقتصاد بشكل عام. فهذا القطاع يمثل حوالى 30 في المئة من السياحة الصيفية ويشغل أكثر من 25 ألف عامل.  

عودة الازدهار ستكون سريعة 

"إذا جرى وقف إطلاق نار في غزة بشكل دائم، فإنّ الواقع السياحي سيحتاج لحوالى الشهر كي يسجل تحسناً ملحوظاً"، بحسب جان عبود، متوقّعاً "أن تكون الحركة السياحية أفضل مما كانت عليه في الصيف الماضي إذا لم تكن في المستوى نفسه". 
منذ إنشاء دولة لبنان الكبير، راح القطاع السياحي يتعثّر أو يُقفل أو ينهار. لكنه لا يلبث أن يعود أجمل مما كان. فهو "نفط" لبنان، والمساهم الأكبر في الناتج المحلي. إذ بلغت حصته 26 في المئة من الناتج في العام الماضي بحسب أرقام البنك الدولي. ولعلّ هذا ما يحفز المؤسسات على الصمود ويعطيها الأمل للاستمرار رغم صعوبة الظروف.