يُخطئ من يظنّ أنّ لبنان بلد غير مُصدِّر. الأرقام الهزيلة للصادرات الزراعية والصناعية لم تعبّر يوماً عن القيمة الحقيقية لما تُسفّره بلاد الأرز إلى ما وراء البحار. فلا البيانات الجمركية، ولا وسائل القياس التقليدية، ولا إحصاءات التجارة الخارجية، تُحصي قيمة ما يُصدّر من "أدمغة" سنوياً. وذلك على الرّغم من أنّ عائداتها من التحويلات المعترف بها، توازي ضعفَيْ ما تعيده الصادرات التقليدية من قيمة فعلية، على أقلّ تعديل.

إحصاء قيمة ما يصدّره لبنان من كفاءات إلى الخارج قد تكون مهمّة مستحيلة. ولذلك تنحصر الإحصاءات بأعداد الخارجين من البلد كمهاجرين، أو عمّال مؤقّتين، أو حتّى عاطلين عن العمل. وقد شهد هذا الرقم ارتفاعاً بارزاً منذ بداية الانهيار في العام 2019 إلى نهاية العام 2024، ووصل بحسب أرقام الدولية للمعلومات إلى 398500 ألف مهاجر أو مسافر. وشهد العام 2023 أكبر موجة مغادرة، إذ بلغ عدد المسافرين 175500، في حين شهد العام 2020 العدد الأقل مع مغادرة 17721 لبنانياً. وهذا الانخفاض في أعداد المسافرين في العام الأول على الأزمة، يعود إلى حظر السفر من قبل مختلف دول العالم، والإقفال العام بسبب جائحة كورونا. وإلّا لتجاوزت أعداد المغادرين في ذلك العام تحديداً، هذا الرقم بأضعاف مضاعفة. خصوصاً أنّه ترافق مع انفجار المرفأ، ونشوء حالة من الإحباط واليأس عند اللبنانيين، قبل أن يتعوّدوا"، كما توقّع الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة.

البطالة سبب أول للهجرة

تتعدّد أسباب الهجرة من معنوية ومادية، لتبقى البطالة هي الوقود لمحرّك الهجرة. فبالتوازي مع ارتفاع أعداد المغادرين تزداد أعداد العاطلين عن العمل بشكل مطّرد. ووفقاً لمسح أجرته منظّمة العمل الدولية وصدر أخيراً في تقرير تحت عنوان "التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية - اتجاهات 2024"، تبيّن أنّ نسبة العمالة مقارنة بعدد السكّان في لبنان انخفضت من معدّل 43.3 في المئة في العام 2019، إلى 30.6 في المئة في العام 2022. أي أنّ نسبة العملة انخفضت نحو 10 نقاط مئوية في غضون عامين فقط. علاوة على ذلك، ارتفع معدّل البطالة من 11.4 في المئة في العام 2019، إلى 29.6 في المئة في العام 2022. أمّا المؤشّر المثير للقلق، فكان وصول البطالة في صفوف الشباب إلى 47.8 في المئة. ما يعني أنّ هناك بين 100 شاب وصبية بين العشرين والأربعين عاماً، 49 عاطلاً أو عاطلة عن العمل.

البطالة طويلة المدى

الأخطر من نسبة البطالة المرتفعة جداً في أوساط الشباب كان نوع البطالة. فبحسب مسح منظمة العمل الدولية يتبين أنّ العاطلين عن العمل يندرجون تحت خانة البطالة الطويلة الأمد. ورغم بحثهم عن عمل، لن يجدوا ما يصبون إليه، لأنّ الاقتصاد انكمش بنسبة 50 في المئة، والكثير من المؤسسات التي يعملون فيها أقفلت بشكل نهائي. في المقابل يعاني نصف العاطلين عن العمل من تراجع قدراتهم وعدم امتلاكهم للمهارات الكافية المطلوبة التي تخوّلهم الدخول إلى سوق العمل المحلّي أو الخارجي من جديد. وهو ما يشكّل عبئاً كبيراً على الاقتصاد، ويزيد من معاناة الأسر والأفراد.

ارتفاع نسبة الهجرة

إزاء هذا الواقع كان من الطبيعي أن تتفاقم الرغبة في الهجرة. ووفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة غالوب (Gallup poll)، وصلت الرغبة في الهجرة من لبنان إلى مستوى قياسي في العام 2021، إذ أعرب 63 في المئة من المشاركين في الاستطلاع عن رغبة قوية في المغادرة بشكل دائم، وهي زيادة كبيرة تفوق نسبة 26 في المئة التي تم الإبلاغ عنها قبل الأزمة. بالإضافة إلى ذلك، كشف الاستطلاع أنّ 85 في المئة من اللبنانيين يعانون مالياً، ووصف 62 في المئة وضعهم بأنّه "صعب للغاية"، وهي زيادة حادّة عن العام 2019.

انعكاسات هجرة الكفاءات

يفترض المنطق أنّ الذين يغادرون لبنان للعمل في الخارج هم من أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية. فالمهرة يفضّلون العمل في الخارج بسبب نوعية الحياة، كما يختار الخريجون في الجامعات الأجنبية البقاء في الخارج نظراً لتوفّر فرص أفضل لهم. وعليه، لا يبقى في البلد إلّا محدودو الكفاءات، الذين تراجعت رغبتهم في الهجرة نظراً للرواتب الزهيدة التي تعرض عليهم، والتي لا تكفيهم للعيش وتحويل الباقي إلى ذويهم في لبنان، من جهة وارتفاع حدّة المنافسة بينهم وبين الدول التي تصدّر عمالة رخيصة بأجور زهيدة من جهة ثانية.

على هذا النحو، يواجه لبنان تحدّيات بسبب فقدان الكفاءات في مختلف القطاعات، لكنّه يستفيد بشكل كبير من تحويلات المغتربين، التي أصبحت تشكّل 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الرسمي. والسؤال الذي بدأ يؤرق الجميع، أيهما أفضل تصدير العقول واليد العاملة الماهرة والحصول على التحويلات أم تعزيز الاستثمارات المحلية للاستفادة من الكفاءات داخلياً؟

"ليس هنالك إجابة قاطعة عن هذا السؤال"، يجيب الخبير في "لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا – الاسكوا"، أسامة صفا. "ولكلّ طريق إيجابيات وسلبيات. فتحويلات المغتربين غير منتجة ولا تؤدّي إلى خلق وظائف مستدامة. فعلى الرّغم من الحجم الكبير للتحويلات، تبيّن بحسب دراسة لـ "الإسكوا"صدرت قبل عامين أنّ حجم الفقر المتعدّد الأبعاد في لبنان وصل إلى 85 في المئة. أي أنّ العائلات تعاني عدّة أشكال من أوجه الحرمان. وهذه المعضلة لا تحلّها التحويلات من الخارج، إنّما نموّ الاقتصاد وخلق وظائف ومواءمة التعليم مع سوق العمل. لكن من الجهة الثانية تشكّل تحويلات المغتربين ثالث أهمّ مصدر للدخل العام بعد الضرائب والاتصالات، وتساعد على صمود الأسر وتأمين بعض متطلّباتها".

مقابل إيجابيات الهجرة، يبرز الخطر على لبنان من إفراغ الكفاءات، وهي الفئة المنوّط بها قيادة النمو الاقتصادي. "كما يكمن الخطر في استبدال المهاجرين بعمالة أجنبية وافدة من خارج البلاد"، بحسب صفا. و"يتحوّل البلد تدريجياً إلى مصدّر لعمالة متدنية الكفاءة في نهاية المطاف أو بعد عدد من السنوات، وذلك من بعد ما كان مصدّراً للكفاءات. وهذا ما يرتدّ سلباً على حجم التحويلات ونوعيتها".

يذكر أن الاعتماد بشكل كبير على التحويلات يجعل الاقتصاد ضعيفاً، للصدمات الخارجية. ولمعالجة هذا الضعف، يجب على "لبنان التركيز على الاحتفاظ بالأفراد المهرة، وتعزيز التنمية الاقتصادية والابتكار. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الدولة تشجيع المغتربين على استثمار تحويلاتهم المالية في القطاعات الإنتاجية لدعم النمو الاقتصادي المستدام وخلق فرص العمل"، بحسب منظمة العمل الدولية. وهذا ما يتوافق مع ما يطرحه أسامة صفا لجهة تعزيز الاستثمارات بالاقتصاد الرقمي ومجالات الابداع التي تملك قيمة مضافة كبيرة جداً، ومقوّماتها متوفّرة في لبنان. "فهذا النوع من الاستثمارات لا يتطلّب بنى تحتية معقدة، ولا رؤوس أموال كبيرة، بل مستوى تعليمياً عالياً وتخصّصات جديدة وتعدّد لغات، وشغفاً بالابتكار والإبداع. وهذه كلّها مقوّمات ما زالت متوفرة لدى اللبنانيين، المقيمين منهم والمهاجرين. وإذا ترافقت هذه الرؤية مع تخطيط إستراتيجي، ووجود طبقة سياسية تعمل على تطويرها ودعمها، عندئذ يكون النهوض الاقتصادي سريعاً ومستداماً.

تحويلات المغتربين التي ما زالت إلى اليوم كبيرة جداً لن تلبث أن تبدأ في التراجع لسببين: تراجع المستوى العلمي والمهني للمهاجرين نتيجة تراجع قدرة الأغلبية على نيل تعليم نوعي. و"استرخاص" اللبنانيين في الخارج نتيجة انهيار اقتصادهم وتراجع قدرة عملهم الخارجية. والتوقع تالياً قبول العمل بأجر أقلّ. والعنصران هذان سينعكسان في المقبل من الأيام تراجعاً في التحويلات. وعليه لا خيار أمام لبنان إلّا الاستثمار بكفاءات المواطنين الذين يمثلون القيمة المضافة لاقتصاد لبنان.