بعد مضي قرابة أربعة أعوام ونيّف على بدء أزمة السيولة في لبنان وتفاقمها بشكلٍ "إسّي" (Exponential) – أي بشكل مُتسارع جدًا – مع إعلان الحكومة وقف دفع سندات اليوروبوندز، عجزت السلطة السياسية عن إقرار قانون كابيتال كونترول يلجم خروج رؤوس الأموال بالعملة الصعبة من لبنان تفاديًا للوضع الذي وصلنا إليه. بالطبع خرج من لبنان مليارات الدولارات على شكل تحاويل مباشرة أو من خلال تصدير البضائع التي كانت تبقى أثمانها قابعة في المصارف الخارجية. والنتيجة، تجفيف القطاع المصرفي من دولارات كان ممكنًا أن تشفي غليل المودعين من خلال إعطائهم حاجاتهم من ودائعهم.

ويُمكن القول إن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي عادت إلى نقطة الصفر خصوصًا بعد إسقاط مسودة الحكومة لقانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي من قبل مجلس شورى الدولة. وهنا تحدر الإشارة إلى أنّ كلّ الحكومات المُتعاقبة منذ بدء هذه الألفية، استخدمت عبارة "هذا مطلب صندوق النقد الدولي" لتبرير أي قرار كانت تأخذه أو تُحاول أخذه. ولكنْ في استخدام هذه العبارة تجنٍّ واضح على صندوق النقد الدولي الذي يلتزم الصمت تفاديًا للدخول في وحول المستنقعات الداخلية. ما يُريده صندوق النقد الدولي هو إعادة لبنان بشكلٍ مُستدام إلى السكّة الصحيحة من خلال مالية عامّة سليمة وقطاع مصرفي قوي ونظيف (عبارة حاكم المصرف المركزي بالإنابة!) واقتصاد حرّ يُعطي المستثمرين الثقة. فصندوق النقد الدولي يسدي النصائح للحكومة والمصرفي المركزي فقط لا غير.

إذًا، اليوم وصلنا إلى حائط مسدود مع فشل جميع الإجراءات للخروج من الأزمة، إذ فشلت السلطة السياسية في إعادة هيكلة القطاع المصرفي – الركيزة الأساسية للاقتصاد، وفشلت في ضمان إعادة الودائع إلى المودعين – الركيزة الأساسية لثقة المستثمرين، وفشلت في حلّ مُشكلة الدين العام وإعادة هيكلة القطاع العام – الركيزة الأساسية لمالية عامّة سليمة. وأصبح الاستنتاج شبه الوحيد من هذا الواقع القائم، هو أن لا إمكانية للخروج من الأزمة الحالية من دون حلّ سياسي يقضي بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة وإتفاق بين القوى السياسية على إجراءات تضمن بحدّها الأدنى الخروج من الأزمة.

المفاوضات مع صندوق النقد الدولي عادت إلى نقطة الصفر

وعليه، لن تعود ثقة المُستثمرين ولا المودعين في غياب الإصلاحات. والأهم لن تعود ثقة الدول التي من المُمكن أن تُشارك في إعادة إحياء الاقتصاد اللبناني عبر استثمارات مباشرة على مثال ما حصل مع مصر حديثًا حيث ضخّت الدول الخليجية نحو 30 مليار دولار أميركي في مشاريع استثمارية داخل مصر.

وهنا يتحتم على لبنان التوجّه نحو الداخل وتحليل إمكانية الخروج بالوسائل الداخلية المتوافرة. رسميًا بلغ حجم الاقتصاد اللبناني 21.78 مليار دولار أميركي في العام 2022، ومن المتوقّع أن يكون قد انكمش بشكلٍ بسيط في العام 2023 (-0.2%). وبالتالي فإنّ جزءًا كبيرًا من هذه الأموال لا يدخل إلى القطاع المصرفي. أيضًا، هناك مستحقّات على القطاع المصرفي بقيمة تفوق الـ 90 مليار دولار أميركي ودين عام على الدولة اللبنانية بقيمة تفوق الـ 100 مليار دولار. فكيف يُمكن إعادة الأمور إلى نصابها؟

الصعوبة الكبرى في الموضوع تأتي من فقدان الثقة بالإجراءات التي تقوم بها الجهات المختلفة حكومية كانت أو مصرفية، والسبب يعود إلى غياب المُحاسبة. هذه الأخيرة لا يُمكن إلّا أن تأتي من القضاء وتشمل القطاع العام في الدرجة الأولى والقطاع الخاص في الدرجة الثانية، إذ بالمحاسبة (أو المساءلة بالحدّ الأدنى) تتمّ إعادة الانتظام والثقة. لذا فإنّ أولى النقاط التي ينبغي البدء بها هي إيجاد حلّ منطقي وعملي يُبعد السلك القضائي عن التدخل السياسي، وهذا لن يكون إلا من خلال معايير علمية يتبوأ على أساسها القاضي منصبًا.

وافتراضًا أن هذا الأمر حصل – أي تمّت المساءلة والمُحاسبة – يُمكن الحكومة أن تعمد إلى عدد من الإجراءات التي تؤدّي حكمًا إلى العودة إلى الانتظام. بالطبع هذه الإجراءات هي اقتراح تدرسه الحكومة علّها تعتمده أو تُعدّله لما فيه خير الشعب اللبناني:

أولًا – في ما يخصّ القطاع المصرفي: ينصّ الاقتراح على أنّ كلّ مودع حالي يودع مبلغ فريش بالدولار الأميركي وديعة لمدّة ثلاث سنوات وهي فترة زمنية مقبولة ومنطقية للخروج من أزمة القطاع المصرفي وإعادة السيولة، يتمّ تحويل مبلغ من أمواله المحجوزة في المصرف إلى وديعة تعتبر فريش بشرط أن تبقى لمدة ثلاث سنوات أيضًا بعد هذا الإيداع. بمعنى آخر يُمكن المودع سحب وديعته بالإضافة إلى مبلغ موازٍ من قيمة ودائعه المحجوزة بالدولار الأميركي، وذلك بعد انتهاء مدّة الثلاث سنوات. أيضًا، يجب إعطاء المودع بعد هذه المدّة إمكانية تحويل وديعته إلى أسهم في المصرف، علمًا أن القطاع المصرفي، على افتراض حصول استقرار سياسي في المنطقة سيكون ذا ربحية عالية (استخراج الغاز، إعادة إعمار سوريا...) وقد لا يجد المستثمرون عائدات مثيلة له. وباعتقادنا، هناك العديد من المودعين المُهتمّين بهذا الأمر، خصوصًا أولئك الذين يمتلكون مداخيل في الخارج أو المُغتربين اللبنانيين أو حتى الأجانب الذين لديهم مصلحة باستعادة ودائعهم بدون فوائد وبدون اقتطاع وإنْ تطلّب الأمر عدّة سنوات.

ولإرساء الثقة وتجنّب الخوف من تعثّر جديد للمصارف، يتمّ إنشاء صندوق يتولّى إدارة أصول الدولة ويكون الضمانة الأساسية للمودعين، خصوصًا إذا ما تعثّرت المصارف بعد عملية الضخّ، وتشغّله شركات استثمار دوّلية (JP Morgan مثلًا) بضمانة مفوّضي رقابة دوليين، وهو ما يمنع الفساد القائم اليوم في العديد من المرافق العامّة.

كذلك يُمكن الحكومة اللبنانية أن تتفاوض مع بعض المصارف الخليجية والأجنبية لإدخالها في رأس مال المصارف، وهو ما يدعّم الثقة ويُعيدها إلى هذا القطاع.

هذا الاقتراح سيسمح للقطاع المصرفي باستعادة سيولته وسدّ أموال المودعين الراغبين في سحبها من دون أن تتكلّف الحكومة قرشًا واحدًا.

ثانيًا – على صعيد القطاع العام: اعتراف الدولة بدينها العام، وبدء مفاوضات مع المقرضين خصوصًا القطاع المصرفي وذلك لإعادة هيكلة هذا الدين بشكلٍ لا يكون فيه وزن خدمة الدين العام أكثر من 15 إلى 20 من إجمالي الموازنة. كذلك يجب على الحكومة إعادة هيكلة مؤسساتها ووضعها في الصندوق المذكور آنفًا، وذلك بهدف محو الهدر والفساد وزيادة مداخيل الدولة، وخفض موظّفي القطاع العام بشكل منطقي وعلمي لا يؤدّي إلى أزمة إجتماعية، وفي الوقت نفسه يسمح باستعادة الانتظام المالي إذ ليس من المعقول أن تُشكّل الأجور في القطاع العام نصف الموازنة حتّى لو كانت هذه الأخيرة بضعة مليارات.

بالإضافة إلى ما تقدّم، ينبغي لجم التهرّب الضريبي والتهريب عبر الحدود من خلال فرض سيادة الدولة المالية وإعادة فرض الشمول المالي. كلّ هذا يسمح برفع إيرادات الدولة واستعادة انتظامها المالي.

ثالثًا – اقتصاد الكاش: يُشكّل اقتصاد الكاش مُشكلة حقيقية للدولة اللبنانية إذ بالإضافة إلى أنّه يحرمها من مداخيل تأتي من الضرائب على النشاط الاقتصادي، يلعب هذا الاقتصاد دورًا سلبيًا في صدقية الدولة اللبنانية ويُعرّض اقتصادها الرسمي لعقوبات وقيود مُحتملة. لذا هناك اقتراح ينصّ على أنّه يتمّ وضع قيود على العمليات التجارية لمنع العمليات الكاش التي تفوق قيمتها مبلغًا مُعيّنًا وإلزامها المرور عبر القطاع المصرفي. وبما أن مُعظم المواطنين يمتلكون كاش في المنازل، تُطرح تسوية تنصّ على أن كلّ تبرير لمداخيل المواطن يؤدّي حتمًا إلى حق دخولها إلى القطاع المصرفي من دون أية تعقيدات، أمّا الأموال التي لا يُمكن تبرير مصدرها، فيتم على سبيل المثال قوننتها بعد اقتطاع نسبة مُعينة منها (مثلًا 20 في المئة) تذهب إلى الإحتياطي الإلزامي لسدّ أموال المودعين.

إنّ الهدف من هذه الاقتراحات هو محاولة تحريك الوضع الحالي للخروج من الأزمة خصوصًا مع انسداد الواقع السياسي. فهل تتلقّف الحكومة هذه الاقتراحات وتسعى إلى تحسينها على نحو يعود بالخير إلى الشعب اللبناني؟