بعد تشكيل أولى حكومات عهد الرئيس جوزف عون، اتفق المسؤولون على وجوب معالجة المشاكل بالنمط الأفقي وليس العمودي، نظراً لكثرتها، ولكون كل واحدة منها تمثل أولوية. إلا إنه ومنذ أكثر من مئة وعشرين يوماً، بمجرد معالجة مشكلة، تتفتح مشاكل جديدة. فـ "لبنان، كما هو معروف لدى جنابكم، بلد سيئ الحظ، بالجملة وبالمفرق. وكلما داويت جرحاً سال جرحٌ"، بحسب الكاتب سمير عطالله. وإن كان عطالله، يقصد في مقاله الأخير في صحيفة "الشرق الاوسط": "تسريح صاحبة التسريحة"، المشاكل السياسية، فإن قوله ينزل "حفراً وتنزيلاً" على كل شيء، ومنه احتجاج الاتحاد العمالي العام، واتحادات النقل البري على فرض ضريبة على المحروقات لتمويل مساعدات "آنية" للعسكريين.
في يوم الخميس الفائت، كان الشارع على موعد مع تحركات احتجاجية واعتصامات لنقابات النقل البري. سيارات و"باصات" متعددة الألوان والمواصفات أصبحت تكتفي بوضع "النمرة" الحمراء، بعدما تخففت من وضع "أجرة" فوق سطحها، كانت ستحتشد على الصنائع أمام مقر وزارة الداخلية، او تحت جسر الكولا. وكما اعتدنا من متابعة عشرات التحركات السابقة، كان عدد العسكريين المولجين بحفظ النظام ليكون أكثر بكثير من عدد السائقين، وكانت وسائل الاعلام المحلية والاجنبية لتتهافت على السائقين لاستصراحهم عن واقع حالهم والمشاكل التي يواجهونها. وكلما رفع أحدهم الصوت ضد المنافسة غير الشرعية والسائقين غير اللبنانيين، وصرخ بعجزه عن تأمين قوت اولاده، انتقلت هذه الوسائل إلى "فتح الهواء". وكانت زحمة السير لتصل شمالاً حتى جسر الرينغ، وجنوباً حتى رأس بيروت.
بنود الاتفاق التي تم التوصل إليه
تفادياً لهذه الصورة المنفًرة "على أبواب" فصل الصيف، واجتذاب السياح والمغتربين، فضّل المسؤولون حل المشكلة حبياً. فعقدوا جلسات مسائية في منزل رئيس الحكومة، أنهوها باجتماع موسع بالسراي الحكومي في اليوم التالي. وقد تم الاتفاق بحسب وزير العمل محمد حيدر على التالي:
- العمل الجاد وتقييم الإجراءات والزيادات التي اتخذت في مجلس الوزراء التي خصصت لإعطاء العسكريين في الخدمة والمتقاعدين زيادات مالية.
- تأمين الزيادات المطلوبة والمقترحة للعاملين في القطاع العام، وإشراك ممثلين في كل اللجان المختصة.
- السعي الدؤوب لزيادة المداخيل المتأتية من الجمارك والأملاك البحرية.
- دعم قطاع النقل البري أو إعفائه من الرسوم وهذا الأمر يتولاه وزير المالية لدراسة آلية التنفيذ والبحث عن الطريقة الأنسب للتطبيق.
- الاتفاق ايضاً مع وزير الداخلية البدء بتطبيق قانون السير، من خلال الأجراءات الفورية التي ستقوم بها القطاعات الأمنية المختصة حماية لهذا القطاع؛ على أن يعقد اجتماع تنفيذي بين وزير الداخلية واتحادات النقل والقادة الأمنيين لتنفيذ هذا الأمر في أسرع وقت.
فعالية التحركات للوصول إلى الحقوق
الشرارة التي أشعلت مطالب اتحادات النقل البري، والتي لاقاها الاتحاد العمالي العام إلى منتصف الطريق للمطالبة بحقوق جميع العاملين في القطاع العام، وألا تقتصر العطاءات على العسكريين، لم تكن لتولّد أي حريق. وهي تفتقد في الشكل والمضمون إلى عناصر تحولها إلى موجة احتجاجات واسعة على مساحة لبنان. فمن حيث المضمون هناك انقسامات أفقية وعمودية في قطاع النقل البري، واغلبية نقاباته واتحاداته تدار بـ "الريموت كونترول"، وغالباً لتنفيذ أجندات سياسية في الأوقات الحرجة، وليس لتحقيق مكاسب نقابية أو عمالية. وهي تعجز بالتالي عن حشد أصحاب المصلحة، وجمعهم في بوتقة واحدة للدفاع عن حقوقهم.
أما في الشكل فان "ما تشكو منه نقابات النقل البري لجهة عمل أكثر من سيارة على لوحة عمومية حمراء واحدة، وتشغيل السائقين غير اللبنانيين الذين لا يحملون إجازات، معروف من قبلها بالتفصيل"، يقول أحد السائقين العموميين، "إن لم نقل هي من تغطيه". والمشكلة الاساسية برأيه لا تتعلق بالتعرفة أو بأسعار البنزين. فالتعرفة التي تتقاضاها بدل "السرفيس"، هي 200 ألف ليرة، توزاي 2.2 دولار على سعر صرف السوق، وهي أعلى بمقدار 1.6 مرة مما كانت عليه في العام 2019، حيث كانت التعرفة تساوي 1.3 دولارا فقط على سعر صفيحة بنزين بـ 15 دولار. أما اليوم فإن سعر صفيحة البنزين هو 16.6 دولار. وبرأيه فإن المشكلة تكمن في انهيار تعويضات الضمان الاجتماعي، وهذه المشكلة عامة وتنسحب على كل المضمونين وليس فقط السائقين العموميين".
التعويضات المالية آنية
الاتفاق مع رئيس الحكومة انتهى إلى "وعد بإعطاء كل المتقاعدين في القطاع العام من غير العسكريين زيادات مالية" بحسب تصريح رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر. و"هذه خطوة نحو شمولية أكبر، ودراسة لموارد أساسية نغضّ النظر عنها حالياً، وهي الأملاك البحرية، وبعض ما يجري في الجمارك". هذا الأمر "طرحناه في حضور وزير المال المعني بالموضوع"، يضيف الاسمر، "ووعدنا الوزير جابر ببذل جهوده في اتجاه إنجاح مداخيل جمارك إضافية تعطي إنتاجية أكبر. كما ان حضور وزير الأشغال هذا الاجتماع كان أمراً هاماً بالنسبة لموضوع الأملاك البحرية والنهرية".
العطاءات المالية لأسلاك القطاع العام سواء كانت عسكرية أو مدنية، ما زالت تُعتبر حلولاً ترقيعية. فهذه التقديمات لا تدخل في صلب الراتب ولن تنعكس بالتالي زيادةً في تعويضات نهاية الخدمة التي ما زالت تُحتسب على سعر الصرف البائد بـ 1500 ليرة. وما لم تتم اعادة هيكلة القطاع العام على أسس واضحة وعادلة بما يتناسب مع المعايير الدولية، ولاسيما لجهة عدد العاملين في هذا القطاع وحصته من حجم القوى العاملة الذي يجب ألا يتجاوز 12 في المئة، فإن كل الحلول للمشاكل نتيجتها مشاكل اخرى ولن يخرج لبنان من هذه الدوامة مهما حاول.