علّق موظفو وزارة المال مساء الاحد 3 آذار إضرابهم مؤقّتاً، مقفلين باب الاتفاق مع رابطة موظّفي الإدارة العامّة. فإضراب المالية الذي استمرّ برغم فكّ الإضراب العام، لم يكن اعتراضاً على تعديل الرواتب، إنّما على خلفية "ما تعرّضوا، وما زالوا يتعرّضون له، من حملة مُغرضة وممنهجة ضدّهم"، على حدّ وصف بيان المديرين في مديرية المالية العامة.

بيان "المديرين" الذي صدر بعد ساعات من وقوف وزير المال يوسف الخليل على خاطرهم، وتنويهه بدورهم وتضحياتهم، أُلحق ببيان موقّع من "تجمّع الموظّفين في وزارة المالية"، يُعلن عودتهم المؤقّتة إلى العمل ابتداء من يوم الإثنين 4 آذار. فهل وقع الشرخ بين موظّفي المالية ورابطة موظّفي الإدارة العامّة، وأي تداعيات على وحدة الصف والموقف، وبالتالي على مصير القطاع العام في واحدة من أدقّ المراحل وأكثرها مفصلية التي يمرّ بها لبنان؟

موقف موظفي المالية

الخلاف بين موظفي وزارة المال وزملائهم في "رابطة موظّفي الإدارة العامّة"، يعود بحسب ما فُهم من بيان المديرين إلى استئثار الأخيرة، أو من يتكلّم باسمها، بالفضل في تعديل الرواتب. في حين أنّه "في الوقت الذي أخذ فيه العاملون في وزارة المال على كاهلهم الدفاع عن حقوق جميع العاملين في القطاع العام، غاب عن النظر والسمع الكثير من كبار الموظّفين الذين سمحت لهم أنفسهم بتصوير ما صدر عن مجلس الوزراء من قرارات كأنّه نتيجة جهدهم ومتابعتهم"، قال المديرون في البيان. "وجميع الموظفين من الإدارات العامّة كافة يعلمون أنّ ما تم الحصول عليه هو نتيجة متابعة حثيثة ومستمرّة من وزير المالية ومدير المالية العام مع دولة رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الخدمة المدنية. والشاهد على ذلك عشرات التقارير التي أعدتها مديرية الصرفيات لتحديد النتيجة المترتّبة على كلّ اقتراح تمّ تداوله، وكذلك الوعد الذي أطلقه دولة رئيس مجلس الوزراء أمام الوسائل الإعلامية ومفاده أنّ زيادة المنح ستكون ابتداءً من أول كانون الأول. وهذا ما صدر لاحقاً عن مجلس الوزراء في اجتماعه الأخير". وعليه طالب المديرون وزير الداخلية والبلديات باتّخاذ الإجراء اللازم لانتخاب هيئة إدارية جديدة لرابطة موظفي الإدارة العامّة. لأنّه لا يجوز قانوناً وأصولاً الاستمرار في اغتصاب هذه المهمة من قبل شخص أخذ على عاتقه عدم تنظيم انتخابات جديدة منذ أكثر من خمس سنوات بسبب حبّ الظهور الإعلامي".

الرابطة تردّ

رئيسة رابطة موظّفي الإدارة العامّة نوال نصر تمنّت في حديث خاص لـ "الصفا نيوز" عدم شخصنة المواقف. فالرابطة التي تعتبر موظّفي المالية جزءاً لا يتجزأ من الموظفين، فوجئت بأنّهم اختاروا لأنفسهم حيّزاً خاصاً بعيداً عن "الرابطة" للتمكّن من التميز بتحصيل مكاسب استثنائية. في المقابل انصبّ جهد الرابطة أخيراً على استرداد حقوق الموظّفين وإرساء العدالة في ما بينهم، وهذا ما أثار حفيظة كبار الموظّفين في المالية". وعليه فإنّ رفع بعض مديري المالية السقف في مواجهة الرابطة وعملهم للانفصال عن الجسم النقابي يعودان، بحسب نصر، إلى مجموعة من الأسباب، أهمّها:

اعتقاد مديرون في المالية أنّهم "منتجو" المال، ولهم حقوق استثنائية يجب عدم الاعتراض عليها.

تصدّي الرابطة لقرض من البنك الدولي بقيمة 34 مليون دولار، منها ثلاثة ملايين هبة، تحت عنوان إنجاز معاملات متراكمة وإجراء تقييم من قبل البنك المذكور لإنجاز هذا الإجراء (أوقف هذا القرض).

زيادة حصّة وزارة المال من الغرامات التي تضمّنها قانون مشروع موازنة 2024 من 30 إلى 40 في المئة. وذلك على الرّغم من أنّ هذه الغرامات التي تضاعفت عشرات، لا بل مئات المرّات، يتحمّلها المواطن.

التصويب على زيادة الأجور في إدارة الجمارك بحيث أصبح أجر الساعة يراوح بين 800 ألف للفئة الخامسة ومليون ونصف المليون للفئة الثانية (الساعة مقابل راتب شهر لدى الإدارات العامة).

التصدّي لاستئثار وزارة المال بالسلفة التي أُقرّت بالمرسوم 11301 المخصّص لدفع أربعة رواتب وبدل النقل للموظفين. فمن بعد تسديد مبلغ 3000 مليار عن شهر واحد، أصدرت المالية مرسوماً تعديلياً، حولت من المبلغ المتبقّي والمقدّر بـ 33 ألف مليار ليرة (369 مليون دولار) حوافز أسبوعية لموظفيها وأجهزة الرقابة وموظفي رئاستي الجمهورية ومجلس الوزراء، بمعدل 300 دولار لموظفي الفئة الخامسة، و400 للرابعة، و500 للثالثة، و600 للثانية، و700 للأولى. وكانت تسابق الوقت للانتهاء من إعطاء الحوافز قبل انتهاء صلاحية المرسوم في 18 نيسان المقبل.

إلغاء الحوافز

وبعدما علت الصرخة في وجه التمييز بين الموظّفين "اتّصل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بوزير المالية يوسف الخليل، وطلب منه وقف دفع الحوافز الإضافية التي تمّ تخصيصها لبعض موظّفي الإدارة العامة دون سواهم". وهذا ما أثار غضب موظّفي المالية على أساس أنّهم "تحمّلوا ما ليس لغيرهم من قدرة على تحمّله، وهم ينفّذون قرارات سلف خزينة للكثير من الإدارات والمؤسسات العامة، ويعلمون علم اليقين بهبات مباشرة من المجتمع الدولي لعاملين في قطاعات مختلفة أو غير مباشرة من خلال هيئات المجتمع المدني، ولم يقبلوا على أنفسهم الاستفادة من المرسوم الذي تضمّن سلفة خزينة بقيمة خمسة مليارات ليرة لبنانية لإعداد دراسة خاصّة بالقطاع العام، ولم يتخلّوا يوماً عن حسّهم الوطني وعن تسهيل حصول المتقاعدين الذين خدموا الدولة بحياتهم ودمائهم، وفضلوا إنجاز رواتب المعاشات التقاعدية على إنجاز صرف ودفع رواتب العاملين في القطاع العام وأولهم موظّفي وزارة المالية".

لعلّ أخطر ما يواجه موظّفي الإدارة العامة هو تقسيمهم، تمهيداً للاستئثار بهم

التمهيد لتصفية الإدارة العامة

إعلاء "الرابطة" الصوت في وجه إعطاء حوافز من سلفة الـ 33 ألف مليار ليرة لموظفين محدّدين لا ينبع من التمييز بين الموظفين فحسب، إنّما من حرصها على مصير المتبقّي من السلفة. فالحوافز المعطاة لا تستهلك كلّ المبلغ، وعليه "أين سيذهب الباقي؟"، تسأل نصر. "ولماذا لا توزّع السلفة بالعدل والتساوي بين موظّفي الإدارة العامة أجمعين؟".

وتضيف نصر أن "توزيع السلفة بنُي على تصنيف الإدارات العامة بين مهمة وغير مهمة بناء على إنتاجية المال. وهذا لا يستقيم بأيّ شكل من الأشكال، فليس ثمة إدارة أهمّ من غيرها، كما ليس ثمة إدارة تنتج المال أكثر من سواها. وعدا كون هذا التصنيف لا يستقيم في المنطق فهو يمهّد لعزل الإدارات انطلاقاً من عدم الحاجة لها. ولم يكن من خيار أمام رابطة الموظفين وكل من هو حريص على الإدارة العامة إلّا رفض هذا التمييز شكلاً ومضموناً نظراً لتأثيره الكبير على مستقبل الموظفين ومصالح المواطنين الذي يصفي دور الإدارات المنتجة للخدمة العامة.

السلفة موضع الخلاف كانت ستغطّي التعويض المؤقت (4 أضعاف الراتب) مع بدل نقل لجميع العاملين في القطاع العام عن 11 من 12 شهراً. وهي أساساً الغاية التي أقرّت من أجلها هذه السلفة بموجب المرسوم 11301 . وتوزيعها بعدالة كان يضمن زيادة مداخيل كلّ الموظفين بهذه النسبة لمدّة عام. ولكن هذا ما لم يحصل وأدّى في النهاية إلى حرمان موظّفي المالية وبقية الموظفين من زيادة مداخيلهم.

موظفو المالية غير مستهدفين

"لم يكن الهدف يوماً استهداف حقوق الزملاء في وزارة المالية"، تؤكد نصر. "فنحن نعرف أنّهم "لا يحصلون من الجمل إلا أذنه"، فما صرف أو كان سيصرف عليهم من السلفة لا يتجاوز الـ 6 ملايين دولار. كذلك بالنسبة إلى الغرامات". مضيفة أنّه كان الأجدى على كبار الموظّفين أن يساعدوا الوزير على تصويب البوصلة، عوضاً عن ملامة زملائهم على المطالبة بحقوقهم. أمّا عن مطالبتهم بانتخاب هيئة إدارية جديدة للرابطة، فتجيب نصر: ها هم قد أوكلوا عدّة زملاء من المالية أسموهم "تجمّع موظفي الإدارة العامة"، ومنذ البدايات يُعمل بتوجيهاتهم، بعيداً عن هواجس الرابطة والموظفين، فهل يريدون تحويل الرابطة إلى فرع ثانٍ لهم؟!".

لعلّ أخطر ما يواجه موظّفي الإدارة العامة هو تقسيمهم، تمهيداً للاستئثار بهم "على القطعة". فسياسة "فرّق تسد" التي حكم بها الزعماء التاريخ بدأت بالدخول إلى الموظفين من الباب العريض. وليس أفضل من استغلال شحّ الموارد لإثارة النعرات. ألم يُقَل "القلّة تولّد النقار!".