دخل الاقتصاد اللبناني من جديد دوّامة "رفع الأجور – التضخّم" تحت مظلّة الاستقرار الوهمي في سعر الصرف. فالارتفاع المستمرّ في الأسعار الناتج من رفع الضرائب والرسوم ودولرتها داخلياً، وزيادة أسعار الشحن وازدياد معوّقات الإنتاج خارجياً، هذه العناصر كلها تفرض تعديل المداخيل. ومع كلّ تعديل في بلد يعتمد بشكل شبه مطلق على الاستيراد لتلبية الحاجات، يزداد الطلب على العملة الأجنبية، فينهار سعر الصرف وتتدهور القدرة الشرائية. وهكذا دواليك تستمرّ سياسة "لحس المِبرد". وفيما يتم الاستمتاع بطعم "دم" زيادة المداخيل "الدافئ"، "يذوب لسان" الاقتصاد.

من بعد الزيادات التي قُدّمت لموظّفي الدولة بمقدار 3 تريليونات ليرة بأقلّ التقديرات، ارتفع الحدّ الأدنى لرواتب الموظفين الفاعلين في القطاع العام إلى نحو 36 مليون ليرة، ووصل الحد الأقصى إلى 108 ملايين لموظفي الفئة الاولى. في المقابل لا يزال الحدّ الأدنى للأجور في القطاع الخاص 9 ملايين ليرة فقط، يضاف اليه بدل نقل "اسمي" بقيمة 450 ألف ليرة. لم تلتزمه الكثير من به، أو حسمته من حصة الدولار التي تدفعها مساعدة من خارج الراتب. وعليه، سترتفع في الأيام المقبلة الأصوات المطالبة بزيادة الحدّ الأدنى للأجور. ومن المتوقّع، بحسب آخر المباحثات في لجنة المؤشر، أن تضاف زيادة تراوح ما بين 10 و12 مليون ليرة إلى الحدّ الأدنى ليرتفع إلى ما بين 18 و22 مليون ليرة، مع رفع المنحة التعليمية من 3 إلى 10 ملايين.

رفع قيمة السحوبات من حسابات اللولار

بالإضافة إلى الزيادة المحقّقة على الرواتب في القطاع العام، والمتوقّعة في الخاص، يطالب المودعون برفع قيمة السحوبات من حسابات الدولار المكوّنة قبل 17 تشرين الأول 2019، والمعروفة لبنانياً بحسابات اللولار. وكانت المباحثات بين المالية ومصرف لبنان قد توصّلت، بحسب المعلومات، إلى اعتماد سعر 25 ألف ليرة للسحب بديلاً من 15 ألف ليرة، ولم يُحدّد سقف السحوبات أو الحد الأقصى المسموح بسحبه في الشهر الواحد.

المباحثات بين المالية ومصرف لبنان قد توصّلت، بحسب المعلومات، إلى اعتماد سعر 25 ألف ليرة للسحب

الضغط على الدولار

يفضي هذا الواقع إلى أمرين حتميين:

الأول، استمرار تدخّل مصرف لبنان بائعاً للدولار بغية المحافظة على الثبات "الوهمي" لسعر الصرف. إذ سترتفع الكمية المباعة شهرياً لدفع رواتب القطاع العام إلى 111 مليون دولار. يضاف إليها 40 مليوناً بدل مساهمة المركزي في التعميم 158 (يُدّفع مبلغ 400 دولار لكلّ مودع مناصفة بين المصارف والمركزي). وعليه ستبلغ كمّية الدولارات المباعة سنوياً من مصرف لبنان 1.8 مليار دولار، من دون احتساب مشاركته أيضاً في تسديد جزء من التعميم 166. ومن البديهي أنّ مصرف لبنان سيشتري الدولار من السوق بما يملك من ليرات. وستعود الكتلة النقدية بالليرة للارتفاع.

الثاني، ازدياد الطلب على الدولار من قبل المستهلكين بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال زيادة استهلاك السلع. وهو الأمر الذي سيؤدّي أيضاً إلى مضاعفة الضغط على سعر الصرف.

عجز الاقتصاد

المشكلة لا تتعلّق بالزيادات المستحقّة على الرواتب والأجور، خصوصاً في ظلّ الارتفاعات الهائلة في أسعار السلع والخدمات وزيادة قيمة الرسوم والضرائب والفواتير، إنّما بعجز الاقتصاد عن تحمّلها. فالسيولة بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان ارتفعت بحسب موازنة منتصف شباط 2024 إلى 885 مليون دولار تعتبر نظرية أكثر منها فعلية. ذلك أنّها متأتية بجزء منها من الودائع تحت الطلب للقطاعين الخاص والعام، و"من تثبيت سعر الصرف وإعادة التفعيل الجزئي لبعض إدارات الدولة بالجزء الآخر"، بحسب الباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة البروفسور مارون خاطر. وهو ما يثبت أنّ الفائض المحقّق لا يكفي فعليّاً إلّا لأشهر معدودة من أجل تمويل الرواتب والتعاميم. وعليه، فإنّ أمد الاستقرار، برأي خاطر، هو قصير جداً للأسباب الأربعة التالية:

الصراع في جنوب لبنان قد يتطوّر في أيّة لحظة إلى ما لا تحمد عقباه، وهو ما دفع باللبنانيين إلى زيادة الطلب على الدولار والإحجام عن انفاقه.

تكبّد الاقتصاد خسائر مالية كبيرة نتيجة العدوان على جنوب لبنان. وقد سبق أن قدّرها وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام، ما بين 7 و10 مليارات دولار.

انسداد الأفق، والعجز عن إيجاد الحلّ الجذري خلال الأشهر الثلاثة او الأربعة المقبلة، قبل استنفاد قدرة مصرف لبنان على التدخل في السوق بائعاً للدولار بغية المحافظة على ثبات سعر الصرف.

تثبيت سعر الصرف بقرار سياسي وليس اقتصادي.

المهمّة المستحيلة

هذه الأسباب ستجعل تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع شارياً للدولار على سعر 89500 ليرة "مهمة مستحيلة"، من وجهة نظر خاطر. "خصوصاً في ظلّ ارتفاع الكلفة شهرياً من 30 إلى 40 مليون دولار، فإلى 150 مليوناً. وعجز الاقتصاد في ظلّ الأوضاع الحالية عن توليد 1.8 مليار دولار سنويا لتأمين حاجات المصرف المركزي من العملات الأجنبية، وما يقرب من 18 ملياراً لتأمين الاستيراد. أي ما يوازي 20 مليار دولار. في المقابل تشهد "كمّية الدولار في السوق انخفاضاً كبيراً نتيجة تراجع السياحة (ساهمت في العام 2023 بحوالى 26 في المئة من الناتج، بحسب تقديرات البنك الدولي). وفي ظلّ استمرار غياب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، "لا يبقى إلّا تحويلات المغتربين (مقدّرة بحسب أرقام البنك الدولي للعام 2023 بنحو 6.4 مليار دولار)، المنكمشة". هذا من دون أن ننسى أنّ "الضغط السياسي، الذي ساعد على تثبيت سعر الصرف في زمن السلم، تضؤل فعاليته في زمن التوتّرات إذا تطوّرت الأحداث. وعليه، فإنّ عودة المضاربة ستؤدّي إلى تفلّت سعر الصرف، حتّى قبل انقضاء الأشهر الأربعة التي يمكن لمصرف لبنان استعمال احتياطاته من العملة الأجنبية في غضونها.

في الخلاصة، يظهر بوضوح أنّ لبنان يضع نفسه أمام خطر داهم عنوانه: "اللعب في الاستقرار في ظلّ تصديق استقرار سعر الصرف"، يقول خاطر. والمسؤولون الذين صدّقوا الاوهام ناموا على وسادة أحلام اليقظة. ولن يطول الزمان حتى تقضّ "هشاشة الاستقرار" مضاجعهم، وتوقظهم على كابوس الانهيار وتوسّعه.