في العام 2014 دعمت الولايات المتّحدة انقلاباً في أوكرانيا في مسعى لجعل هذا البلد قاعدة للتدخّل في روسيا وزعزعة الاستقرار فيها. لكن يبدو أنّ الانتصارات التي حققها الروس في أوكرانيا تنذر بانتقال موسكو إلى زعزعة الاستقرار في شرق أوروبا والبلقان في محاولة لاستعادة نفوذها في شرق أوروبا. وتستفيد روسيا من علاقاتها التاريخية مع صربيا، ومن وجود أقلّيات روسيّة في عدد من بلدان شرق أوروبا يمكنها تحريكها من أجل تحييد هذه البلدان في صراعها الدائر مع الغرب الجماعي بقيادة الولايات المتحدة.

الصرب قادمون

"فيفا خزب الله"، هذا ما قاله لنا بعض الحضور في حفل الاستقبال الذي أقيم على شرف المدعويّن للمشاركة في منتدى التعدّدية القطبية الذي عقد في موسكو يومي 26 و27 شباط 2024. والمفاجأة كانت أنّ من رفع نخب "خزب الله" كان الوفد الصربي الذي أكّد لنا "أنّنا في خندق واحد في مواجهة الغرب الجماعي والصهيونية العالمية". هذا كان قبل يوم واحد من خطاب المفكر الجيوسياسي الروسي الكسندر دوغين الذي اعتبر فيه أنّ ما يجري في فلسطين هو حرب إبادة يشنّها الغرب الجماعي، وأنّ المعركة في فلسطين هي جزء من الحرب التي تقودها الولايات المتحدة، قائدة الغرب الجماعي، ضد القوى الأوراسية.

أعضاء الوفد الصربي اعتبروا أنّ ما جرى في يوغوسلافيا السابقة لم يكن حقاً لتقرير المصير للسلوفينيين والكرواتيين والبوسنيين المسلمين، بمقدار ما كان إعادة رسم الجغرافيا السياسية للبلقان في إطار الجهود الغربية للهيمنة على منطقة كانت السيطرة عليها ضرورية للغرب الجماعي قبل التوجه إلى الضرب في العمق الروسي. وإنّ ما جرى في يوغوسلافيا السابقة بين العامين 1991 و1995، ثم في إقليم كوسوفو بعد العام 1999 كان يصبّ في هذا الإطار، لافتين إلى أنّ ما حصل هناك كان مقدّمة لما سيجري من صراعات في منطقة المشرق العربي بعد العام 2003 عقب الغزو الأميركي للعراق. واعتبر الوفد الصربي أنّ الوضع في إقليم كوسوفو ليس مطمئناً، وأنّ الأمور تتجه إلى الأسوأ، مؤكّدين أنّ صربيا لن تتخلّى عن هذا الإقليم مهما بلغت الضغوط الغربية، معتبرين أن الانتصارات الروسية في أوكرانيا تشكّل حافزاً لصربيا بغية استعادة ما خسرته في العقود الثلاثة الماضية.

والجدير ذكره أنّ إقليم كوسوفو شكّل تاريخياً مهد القومية الصربية وانطلاقها لتكوّن مملكة مستقلّة حتّى القرن الرابع عشر حين تمّ احتلتها الدولة العثمانية. إلّا أنّ الألبان بدأوا في خلال القرن التاسع عشر بالنزوح بكثافة إلى الإقليم آتين من ألبانيا. وخلال القرن العشرين راحت تتصاعد نسب الألبان في الإقليم مقابل تناقص نسب الصرب. وقد تفاقم التوتّر بين الألبان والصرب خلال التسعينيات من القرن الماضي نتيجة تشجيع الولايات المتحدة والقوى الغربية للألبان في الإقليم للانفصال، لأنّ واشنطن كانت تريد إقامة قاعدة عسكرية في كوسوفو هي الأكبر لها في العالم لمواجهة النفوذ الروسي في البلقان. وفي العام 1999 شنّ حلف شمال الأطلسي "الناتو" حرباً على صربيا مجبراً إيّاها على الاعتراف بالاستقلال الذاتي لكوسوفو. وقد أعلنت سلطات كوسوفو استقلالها من جانب واحد عن صربيا في 17 شباط 2008، ومنذ ذلك الحين حصلت على اعتراف دبلوماسي كدولة ذات سيادة من قبل 104 دول أعضاء في الأمم المتحدة. وعلى الرّغم من أنّ صربيا لا تعترف رسميًا بكوسوفو دولةً ذات سيادة، وتستمرّ في المطالبة بها باعتبارها مقاطعة كوسوفو وميتوهيا المتمتّعة بالحكم الذاتي، فإنّها تقبل السلطة الحاكمة لمؤسسات كوسوفو كجزء من اتفاق بروكسل للعام 2013.

هناك أقلّيات روسية كثيرة تعيش في أستونيا ولاتفيا وليتوانيا

روسيا تعود الى شرق أوروبا

روسيا التي استطاعت أن تستوعب هجوم الغرب الجماعي ضدّها في أوكرانيا بقيادة الولايات المتحدة، باتت تخطّط لتثبيت انتصاراتها في أوكرانيا وآخرها في مدينة افدييفكا عبر السيطرة على مزيد من الأراضي الناطقة بالروسية التي منحها الشيوعيون سابقاً لأوكرانيا. كما باتت تخطّط لنقل الصراع إلى منطقة أوروبا الشرقية لزعزعة الاستقرار في الاتحاد الأوروبي واستعادة نفوذها في هذه المنطقة التي تعتبر مهمّة جداً للدفاع عن قلب روسيا. ويأتي هذا السعي الروسي بعد تهديد حلف شمال الأطلسي الناتو بقطع الخطّ البرّي الممتدّ من بلاروسيا عبر بولندا الى إقليم كاليننغراد الروسي الواقع على بحر البلطيق. والجدير ذكره أنّ هناك أقلّيات روسية كثيرة تعيش في أستونيا ولاتفيا وليتوانيا وترنو بأنظارها إلى موسكو للحماية.

في هذا الإطار، تحرّك الروس في إقليم ترانسينستريا في شرق مولدافيا مطالبين بالانفصال، ومناشدين موسكو التدخّل لحمايتهم من اضطهاد الحكومة المركزية المولدافية المدعومة من الغرب. وقد ردّت وزارة الخارجية الروسية بإصدار بيان أعلنت فيه أنّ أولويتها تتمثّل في حماية سكان ترانسنيستريا "لأنّهم أبناء وطننا." والجدير ذكره أنّ الإقليم كان قد أعلن استقلاله عن مولدافيا إلّا أنّه لم يحظ باعتراف دولي. وعلى الرغم من أنّ موسكو تعترف رسمياً باستقلال الإقليم، فإنّها تحتفظ معه بعلاقات خاصة في المجالات السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية. وتتهم مولدافيا روسيا بأنّها تحتل الإقليم ويدعمها في مزاعمها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

وإقليم ترانسنيستريا عبارة عن شريط ضيّق من الأراضي يقع في شرق مولدوفا على طول الضفّة اليسرى لنهر دنيستر ويبلغ طوله 225 كيلومتراً وعرضه من 12 إلى 30 كيلومتراً. ويعود تاريخ النزاع المسلّح بين مولدوفا وترانسنيستريا إلى أحداث أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، عندما اعتمد المجلس الأعلى لجمهورية مولدوفا الاشتراكية السوفياتية العام 1989 قوانين بشأن اللغات، وأعلن المولدوفية اللغة الرسمية والوحيدة في البلاد.

ورداً على ذلك، أُنشئَت مجالس التعاونيات العمالية في المؤسسات الصناعية في الإقليم ذي الغالبية الروسية، التي نظّمت تظاهرات تطالب بإجراء استفتاء حول هذه القضية، وهو ما رفضته السلطات المركزية. وفي بداية العام 1997، بدأت المفاوضات بين مولدافيا وسلطات الإقليم بوساطة روسية وانتهت بالتوقيع في الكرملين على مذكرة بتطبيع العلاقات في إطار دولة مشتركة، داخل حدود جمهورية مولدوفا الاشتراكية السوفياتية للعام 1990. وقد عاد التوتر إلى التصاعد في الإقليم في العام 2022 نتيجة الحرب التي اندلعت في أوكرانيا.