بدأت روسيا بفتح مجال جديد للمواجهة مع الغرب الجماعي بقيادة الولايات المتحدة عبر الانتقال إلى المستوى الأيديولوجي من الصّراع. فبعد استعادة عافيتها الاقتصادية والعسكرية في ظلّ الرئيس فلاديمير بوتين الذي تبوّأ السلطة في العام 2000، بعد عقد من الانهيارات عقب اضمحلال الاتّحاد السوفياتي في العام 1991، كان عليها استعادة المبادرة الإستراتيجية بعد إرسال قوّاتها إلى سوريا في العام 2015 ومن ثمّ شنّها العملية العسكرية الخاصّة في اوكرانيا في شباط 2022. بالتوازي مع ذلك، كانت روسيا تبني تحالفاتها الإستراتيجية مع الصين ودول آسيا الوسطى في إطار منظمة شنغهاي للتعاون، التي ضمّت في ما بعد الهند وباكستان وإيران، وفي إطار منظّمة البريكس مع الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، والتي ضمّت أخيرًا مصر وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وأثيوبيا. 

المواجهة على المستوى المالي 

لكن كان هنالك مستويات مهملة من قبل روسيا وحلفائها كان عليها أن تلتفت إليها وهي المستوى المالي والمستوى الثقافي – التربوي والمستوى الأيديولوجي. كانت الأولوية للمستوى المالي الذي استطاعت الولايات المتحدة عبره توجيه ضربة قاسية للاقتصاد الروسي في العام 2012. تحسّبًا لقيام واشنطن بتكرار هذه التجربة، سعت موسكو إلى إقامة منظومتها المالية عبر إنشاء نظام تحويل مالي خاصّ بها تحت اسم "نظام التحويل الأسرع" (أف بي أس)، الذي انضمّت إليه دول أخرى مثل إيران وعدد من دول آسيا الوسطى. وبالتعاون مع الصين ومنظومة بريكس تمّ إطلاق البنك الآسيوي للتنمية وبنك التنمية الجديد ليكونا بديلًا من البنك الدولي وصندوق النّقد الدولي اللذين تسيطر عليهما الولايات المتحدة ليشكّلا ذراعًا من أذرعة هيمنتها المالية الدولية إلى جانب الدولار. وكخطوة أخيرة لاستكمال ضرب هيمنة الدولار أعلنت البريكس، ومن ضمنها روسيا، عزمها إطلاق عملة تداول عالمية تكون بديلًا من الدولار الأميركي. 

بقي إذًا المجال التربوي – الثقافي والمجال الأيديولوجي مجالين رئيسيين تظهر الولايات المتحدة المستندة إلى الإرث الأيديولوجي – الثقافي الغربي تفوّقها فيهما. وهو المجال الذي كان على روسيا أن تلجه لتستكمل حلقة المواجهة مع الغرب، وتسدّ ثغرة رئيسية يمكن هذا الغرب أن يتسلسل منها ليحقّق اختراقًا في وجدان الشعب الروسي وشعوب الدول الحليفة لروسيا في مواجهة الغرب. فالأيديولوجيا تلعب دورًا رئيسيًا في تعميم منظومة قيم ونمط تفكير يؤدّي إلى شرعنة الإستراتيجية الكبرى، ويجعلها أسرع للقبول من قبل الجمهور الواسع الذي يشكّل قاعدة أيّة مواجهة، كما يشكّل المستفيد الأول منها. والجدير ذكره أنّ جزءًا أساسيًا من قدرة الولايات المتحدة على فرض هيمنتها العالمية جاء عبر تعميم أيديولوجيتها الليبرالية التي صوّرتها على أنّها مرتبطة بفطرة الانسان، أي أنّ الإنسان يولد ليبراليًا أو "حرًّا"، كما جاء عبر تعميم ثقافتها عبر أشكال عدّة، من ضمنها الأفلام والمنتجات الاستهلاكية، ليصبح الكلّ جزءًا من الحلم الأميركي، حتّى أولئك المتضرّرين من سياسات الولايات المتحدة. 

فكرة دوغين تقوم على التعدّدية الإنسانية في مواجهة الغرب الذي قدّم نفسه للعالم عبر ثقافته العنصرية



دور ألكسندر دوغين 

الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين مخاطباً المشاركين في المؤتمر

هنا نفهم الدور الذي لعبه الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين على مدى العقدين الماضيين في السعي لانتاج أيديولوجيا مواجهة للأيديولوجيا الغربية. ودوغين من مواليد العام 1962 وقد ولد في عائلة عسكرية، وخلال الثمانينيات من القرن الماضي صّنف على أنّه منشقّ مناهض للشيوعية، خصوصًا أنّه كان من أوائل المطالبين بإحياء الإرث الأرثوذوكسي لروسيا. بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، شارك دوغين في تأسيس الحزب البلشفي الوطني مع إدوارد ليمونوف، وهو الحزب الذي اعتنق البلشفية الوطنية، والذي تركه لاحقًا. في العام 1997، نشر أسس الجغرافيا السياسية، إذ أوجز نظرته للعالم، داعيًا روسيا إلى إعادة بناء نفوذها من خلال إقامة تحالفات مناهضة للغرب الذي يشكّل تهديدًا وجوديًا لها. واصل دوغين تطوير أيديولوجيته الأوراسية الجديدة، وأسّس حزب أوراسيا في العام 2002 وكتب المزيد من الكتب، بما في ذلك النظرية السياسية الرابعة (2009) التي نادت بخلق نموذج فكري بديل من الليبرالية والماركسية والفكر المحافظ، في محاولة أخذ العناصر الإيجابية من الأيديولوجيات الثلاث، مثل الإبداع الفردي في الليبرالية مع نبذ التفكّك الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية في الماركسية مع نبذ فكرة القضاء على الحرية، والأسرة والقيم التقليدية في الفكر المحافظ مع نبذ الشوفينية. كلّ هذا دمجه في مفهوم العودة إلى التراث والمناداة بتعددية قطبية تقبل الثقافات الأخرى، وهي الغربية والأرثوذوكسية الأوراسية والإسلامية والصينية الآسيوية والإفريقية والأميركية اللاتينية. 

هذا الفكر لقي رواجًا لدى العديد من المفكّرين في أنحاء العالم الذين كانوا يبحثون عن نموذج فكري يقدّم بديلًا من الليبرالية الغربية التي تشكّل بالنسبة لهم إحدى أدوات الهيمنة. من هنا، فإنّ دوغين سارع لإقامة منتديات، كان أهمّها ذلك الذي حضره في العام 2019 في بيروت، وكان من تنظيم المفكّر الإيراني الراحل نادر طالب زادة وزوجته اللبنانية زينب مهنا. وعلى الرّغم من الاحترام الكبير الذي كان ولا يزال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يكنّه لدوغين، لم يكن الفيلسوف الروسي صاحب دور كبير في التأثير على قرارات الكرملين، أقلّه حتّى اندلاع العملية العسكرية الروسية الخاصّة في أوكرانيا في شباط 2022. بل إنّ مراكز قوى سعت لإبعاد دوغين وتهميشه في العام 2014 بسبب تصنيفها مواقفه من أحداث أوكرانيا على أنّها متطرّفة جدًا. ففي مواجهة الانقلاب الذي قاده بترو بوروشينكو في كييف بدعم من الغرب وشنّه حربًا على منطقة الدونباس، دعا دوغين إلى ردّ سريع وتدخّل عسكري روسي لمواجهة الخطر الوجودي على روسيا. لكنّ مراكز القرار المحيطة بالكرملين لم تقتنع بصوابية رأي دوغين حتّى شباط 2022 حين بلغتها أنباء عن حشود عسكرية أوكرانية لاجتياح الدونباس والبدء بإثارة حالة لا استقرار في القوقاز الروسي. 


فيلسوف المواجهة مع الغرب 


صوابية رأي دوغين في نظر القيادة الروسية من جهة، واغتيال ابنته داريا في صيف العام 2022 من جهة أخرى، نبّها القيادة الروسية إلى محوّرية المواجهة الأيديولوجية مع الغرب. هذا الذي جعلها ترعى فكرة دوغين بتأسيس الحركة الدولية لمحبّي روسيا، التي ضمّت في عضويتها مئات المفكّرين السياسيين حول العالم، والتي عقدت مؤتمرها الأول في العام 2023 ومؤتمرها الثاني في 26 و 27 شباط 2024. لقد كان الهدف هو مواجهة مزاعم الحرية الليبرالية التي تستخدمها الأوليغارشية الغربية الحاكمة واجهة لهيمنتها "بحرّيّة الإرادة". كما أعلنت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في كلمتها أمام الحضور في المؤتمر. أما دوغين، الذي كان يستقبل 350 مدعوًا من 130 بلدًا حول العالم فقد أعلن المبادىء الرئيسية البديلة من الليبرالية الغربية. 

بالنسبة إلى دوغين، كما ورد في خطبته أمام الحضور، فإنّ التعددية القطبية هي فلسفة بديلة تقوم على فكرة مفادها أنّ الغرب ليس الحضارة الوحيدة على هذا الكوكب، بل مجرّد واحدة من حضارات عديدة. وهو يشدّد على أنّ التعددية القطبية ليست مناهضة للغرب، ولكنّها تتعارض مع افتراض الغرب لنفسه أنّه حضارة عالمية واستثنائية ونموذج وحيد يجب أن يعتمده الجميع. وهو اعتبر أنّ روسيا ساعدت في تسريع نهاية العالم الأحادي القطب، وأنّ هذا أظهر للعالم أجمع أنّ بإمكانك الوقوف في وجه الغرب والقول لا. وبالنسبة إليه، فبالإمكان عبر التعددية القطبية أن تتضافر الجهود لمواجهة الغرب، فالصين تقدّم تحّديًا اقتصاديًا للهيمنة الغربية، ويقدّم العالم الإسلامي تحدّيًا ثقافيًا وأيديولوجيًا. ولم تعد إفريقيا وأميركا اللاتينية مستعمرتين غربيتين، بل أصبحتا عملاقين صاعدين. وهو يشدّد على أنّ المعركة هي داخل الغرب نفسه بين الغرب المعولم والغرب المتمسّك بالتراث والتقاليد، وأنّ الغربيين أنفسهم هم من أبرز ضحايا النّظام العالمي الذي تهيمن عليه الأوليغارشية الغربية. 

في المحصلة، فإنّ فكرة دوغين تقوم على التعدّدية الإنسانية في مواجهة الغرب الذي قدّم نفسه للعالم عبر ثقافته العنصرية، ويعتبر أنّ نظام العولمة بدأ بالصعود مع بريطانيا التي تمكّنت من السيطرة على البحار لتحوّل العالم بأجمعه إلى ملكيّة لها، لترث الولايات المتحدة بعد ذلك هذه الملكية. ويخلص إلى القول إنّ روسيا ستكون مع القوى والثقافات الأخرى رأس حربة لإنهاء هذه العولمة الأحادية وبناء عالم متعدّد الاأطاب عادل ومحقّ للجميع.