العالم الذي يصفه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنّه دخل في مرحلة "الفوضى"، مستشهداً بحربي أوكرانيا وغزّة والنزاعات الأهلية والانقلابات في دول إفريقية، يعيش في المرحلة الانتقالية ما بين نظام القطب الواحد، الذي نشأ عقب سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي قبل 33 عاماً والنظام المتعدّد الأقطاب الآخذ في التبلور. 

كانت الحرب الروسية-الأوكرانية التي اندلعت في 24 شباط 2022، الحدث الجيوسياسي الأكبر الذي تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. روسيا أرادت رسم خط أحمر أمام تمدّد حلف شمال الأطلسي "الناتو" نحو حدودها، في مقابل إصرار غربي على أنّ من حق كييف أن لا تملي عليها موسكو توجهّاتها السياسية والاقتصادية، وأنّ أبواب الحلف لن تُقفل في وجه أوكرانيا. 

في واقع الأمر، الحرب الروسية-الأوكرانية التي هي جزء من مواجهة أوسع بين روسيا والغرب، بدأت عام 2014، عندما أطاحت ثورة مدعومة من واشنطن نظام الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش الموالي لموسكو، وما تلاها من ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم ومن دعم لحركة انفصالية في منطقتي دونيتسك ولوغانسك، حيث تقيم غالبية من أصول روسية. 

وأخفقت اتفاقات مينسك التي اضطلعت ألمانيا وفرنسا بدور مهمّ في صياغتها، في تجنيب روسيا وأوكرانيا الحرب الشاملة في العام 2022. ومن المؤكّد أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يعتقد أنّ في إمكانه حسم الحرب في أسابيع، وفرض أمر واقع جديد في أوكرانيا. 

تبيّن أن بوتين أخطأ في الحسابات، بعدما ثبت أنّ الجيش الأوكراني أقوى بكثير ممّا كان يعتقد، ومنذ أن أخفق الجيش الروسي في حسم معركة كييف في الأيام الأولى من الحرب، ثبت أيضاً أنّ الجيش الروسي أقلّ قوة مما كان يُعتقد في موسكو وفي الغرب. مثلاً رئيس الأركان الأميركي السابق الجنرال مارك ميلي أعطى تقديرات قبيل الحرب، بأنّ القوات الروسية تستطيع السيطرة على كييف في ثلاثة أيام. هكذا قال في شهادة أمام إحدى لجان الكونغرس. 

كما أخطأ بوتين في حسابات شنّ الحرب. أخطأ الغرب كذلك في حساباته.

أخطأ بوتين في تقدير حجم الدعم الذي ستقدّمه الولايات المتحدة وأوروبا لكييف. وإذا بالرئيس الأميركي جو بايدن ينجح في بعث الناتو من "موته السريري" على حدّ وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2019، ويظهر سخاء واسعاً في تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية كي تتمكّن كييف من التصدّي لروسيا. وقف بايدن خلف شعار "دعم أوكرانيا طالما استلزم الأمر". وكذلك فعلت أوروبا التي فطمت نفسها عن الغاز الروسي الرخيص واشتركت مع الولايات المتحدة في فرض نظام عقوبات غير مسبوق على روسيا. 

لم تعد أوكرانيا وحدها. الدول الأوروبية فتحت حدودها أمام ملايين اللاجئين، في لحظة تعاطف نادرة في سياق حملة غربية عنوانها إلحاق الهزيمة بروسيا في أوكرانيا، والدفاع في الوقت نفسه عن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. 

أمام الضغط العسكري الأوكراني المدعوم غربياً، تراجعت القوات الروسية عن محيط كييف ومحيط خاركيف وأعادت الانتشار في مناطق أقرب إلى الحدود الروسية. وتعثّرت عملية التفاوض التي رعتها بيلاروسيا أولاً ومن ثم تركيا. وفي خريف 2022، شنّ الجيش الأوكراني هجوماً مضاداً طرد فيه الجيش الروسي خلال أسابيع من منطقة خاركيف وسومي وخيرسون. تطوّرات دراماتيكية في الميدان دفعت بوتين إلى إعلان تعبئة جزئية شملت استدعاء 350 ألف جندي. 

وبينما بدا أنّ موسكو باتت في موقع ضعف، سعى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى استغلال ذلك في الاستعداد لهجوم مضاد آخر في صيف 2023. وتلقّى دعماً غربياً بدبّابات حديثة من ألمانيا وبريطانيا فضلاً عن نظام الدفاع الجوي الأميركي باتريوت وراجمات صواريخ بعيدة المدى من طراز هيمارس، فضلاً عن عربات قتالية أميركية متطوّرة من طراز "برادلي" وأحدث الأنواع من ناقلات الجند الفرنسية والمدفعية، علاوة عن عشرات آلاف الجنود الأوكرانيين الذين تلقّوا تدريبات في معسكرات حلف شمال الأطلسي. 

في هذه الغضون، كان الجيش الروسي يتكيّف مع الظروف الجديدة الناشئة ويتعلم من أخطائه في الميدان، ويقيم خطاً دفاعياً حصيناً أشرف عليه قائد القوات الروسية السابق في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفكين. وتزامنت الاستعدادات الروسية مع معركة خاضتها شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة بقيادة يفغيني بريغوجين الذي يلقب بـ"طباخ بوتين" في مدينة باخموت الإستراتيجية في منطقة دونيتسك، قبل أن يستحكم العداء بين الرجلين وينتهي بمقتل بريغوجين في تحطم طائرته الخاصة. تلك المعركة التي استمرت أشهراً أدّت إلى مقتل عشرات الآلاف من الجانبين. 

وحدثت المفاجأة عندما أصطدم الجيش الأوكراني بما يعرف بـ"خط سوروفكين" فلم يستطع اختراقه، وتالياً فقد خسائر بشرية وفي المعدات لا تتناسب مع المكاسب المتواضعة جدّاً المحقّقة. استولى الذهول على القيادة في كييف وعلى شركاء كييف في واشنطن والعواصم الأوروبية. ثلاثة أشهر من القتال انتهت إلى لا شيء على الأرض، في وقت تنفّس بوتين الصعداء وارتفعت معنويات الجيش الروسي مجدّداً. 

وأتاح الإخفاق العسكري الأوكراني لبوتين الانتقال إلى موقع الهجوم لتسيطر القوات الروسية على مدينة أفدييفكا، وتزحف نحو مدينة ماريينكا في دونيتسك، وتضغط على كوبيانسك في منطقة خاركيف وعلى نهر دنيبرو. 

الأحداث غير المؤاتية على الجبهة انفجرت صراعاً بين زيلينسكي ورئيس أركانه السابق فاليري زالوجني الذي يتمتّع بشعبية كبيرة في أوساط الرأي العام. الجنرال رأى أنّ الجبهات بعد فشل الهجوم المضاد وصلت إلى "طريق مسدود"، بما يعني ضمناً أن لا بد من طرق باب الحوار. 

الحوار، لا يبدو أنّه وارد في قاموس زيلينسكي الذي قال إنّ الجبهات ليست في طريق مسدود، والدليل على ذلك، هو النجاحات التي حقّقتها أوكرانيا ضدّ أسطول البحر الأسود الروسي، بحيث تم تحييد ثلث قوة الأسطول، وها هي السفن الأوكرانية المحمّلة قمحاً تمخر عباب البحر من دون أن تتمكّن روسيا من اعتراضها. كما أنّ سلاح المسيّرات الأوكراني يوجه ضربات مؤذية ضد البنى التحتية الروسية وفي العمق أحياناً، مطارات ومصاف للنفط وخطوط للسكك الحديد، كما تدكّ الصواريخ الأوكرانية من طراز "شادو" البريطانية مدينة بيلغورد الروسية الحدودية وكذلك المدن الواقعة تحت سيطرة روسيا في الشرق الأوكراني. 

هل هذا كافٍ ليصنع نصراً عسكرياً أوكرانياً؟ 

ليست الأمور بهذه السهولة، لأنّ الاستعداد لهجوم مضاد جديد يحتاج على الأقلّ إلى عام. ثمّ أنّ الحماس الغربي الداعم لكييف بدأ يفتر. وهذا الكونغرس الأميركي عاجز عن تمرير مساعدة الـ61 مليار دولار التي طلبها الرئيس بايدن لأوكرانيا، بفعل موقف الجمهوريين في مجلس النواب بتحريض من الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي يقترب من نيل بطاقة الحزب الجمهوري للترشّح للانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني المقبل. 

يقود ترامب اتجاهاً انعزالياً في الولايات المتحدة، ويرى أنّ حل النزاع الأوكراني لا يحتاج إلى أكثر من 24 ساعة في حال عودته إلى البيت الأبيض. يعمل الرجل بشعار "أميركا أولاً"، أي أنّ حدود المكسيك ومواجهة موجات المهاجرين من أميركا اللاتينية، أولى من دفع الأموال لأوكرانيا. 

احتمال عودة ترامب لن تصبّ في مصلحة زيلينسكي، وأوروبا وحدها غير قادرة، مهما بذلت من جهود، على تعويض الدعم العسكري الأميركي. 

والرأي العام الأوروبي والأميركي لم يعد يبدي ذاك الحماس الذي أبداه في السنة الأولى من الحرب ضدّ روسيا. الأعباء الاقتصادية التي يتكبّدها الأوروبيون بفعل العقوبات المفروضة على روسيا، تجعلهم يعيدون التفكير في مواقفهم ولا يعارضون تسوية سلمية للنزاع. 

وتنقل صحيفة "النيويورك تايمز" الأميركية عن الأستاذ في جامعة جورجتاون تشارلز أي. كوبتشان الذي عمل في مجلس الأمن القومي ابان إدارة باراك أوباما، أنّ المأزق الي وصلت إليه الحرب، يعني أنّ الولايات المتحدة يجب أن تستكشف الوسائل من أجل بدء مفاوضات لإنهاء الحرب. وأضاف أنّه "إذا كان في إمكان روسيا البقاء على هذا المسار، فلا أعتقد أنّ أوكرانيا قادرة على الصمود". وأشار إلى أنّه بعد سنتين من الحرب "لا يوجد طريق في المدى المنظور كي تحقّق أوكرانيا انتصاراً ميدانياً"، حتّى لو حصلت على صواريخ بعيدة المدى أو مقاتلات "إف-16" وفق ما يطالب زيليسنكي. 

وكما أخطأ بوتين في حسابات شنّ الحرب. أخطأ الغرب كذلك في حساباته. لقد اعتقد بايدن أنّ العقوبات الغربية قادرة على تدمير الاقتصاد الروسي وتالياً جلب بوتين إلى المفاوضات من موقع المهزوم. تبيّن بعد عامين من الحرب وموجة إثر موجة من العقوبات الغربية، أنّ الاقتصاد الروسي حقّق نمواً في 2023 بنسبة أعلى ممّا حقّقه الاقتصاد الألماني!!! 

وأكثر من ذلك، تحقّق روسيا اليوم من صادرات النفط أكثر ممّا كانت تحققه قبل 24 شباط 2022. أي أنّ العقوبات الغربية لم تحقّق الغرض المتوخّى منها. 

عامل أساسي سها عن بال إدارة بايدن. الصين والهند ودول الجنوب العالمي، لم تنضمّ إلى العقوبات الغربية. وهذه رسالة قويّة إلى رغبة الدول الناشئة في التخلّص من هيمنة نظام القطب الواحد. 

فهل يستخلص بايدن الدروس؟ وهل يقتنع زيلينسكي بأنّ لا مفرّ من الإقدام على خيارات صعبة لوقف الحرب ووقف النزيف البشري والمادي؟ 

وكلّ النزاعات انتهت على طاولة المفاوضات. والبداية هي في الاقتناع بأنّ الوقت قد حان للحوار قبل أن تمتدّ الحرب لسنوات وسنوات، من دون أن يتمكّن طرف من حسمها عسكرياً. 

هذه "الفوضى" التي تحدّث عنها غوتيريش لن تنتهي على ما يظهر في وقت قريب.