المواقف الروسية تنذر بسعي موسكو إلى العودة بقوّة إلى ملفّ المفاوضات العربية الإسرائيلية والذي همّش منذ العام 1972...

 في السابع من تشرين أول 2023 اندلعت المواجهات بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي تحت شعار طوفان الأقصى، والتي شكّلت لحظة فارقة في تاريخ النّضال الفلسطيني من أجل التحّرر. فلقد كانت هذه هي المرّة الأولى التي يبادر فيها المقاومون إلى الهجوم على الاحتلال الإسرائيلي مجتاحين مستوطناته وقواعده في منطقة غلاف غزة، ممّا شكّل ضربة قاسية للعقيدة الأمنية الإسرائيلية ومفهومها للأمن القومي. وعلى مدى 47 يوماً شنّت إسرائيل حملة عسكرية شعواء ضدّ قطاع غزّة بذريعة محاولة تحرير المئات من أسراها الذين قبضت عليهم المقاومة الفلسطينية من دون طائل. وبعد 47 يوماً اضطرّت إسرائيل إلى القبول بوقف مؤقّت لإطلاق النّار بعدما فشلت في كلّ أهدافها التي أعلنتها وهي تحرير أسراها من دون اللجوء الى التفاوض مع حركة المقاومة الإسلامية حماس، والقضاء على حركة حماس، وترحيل سكّان قطاع غزّة الى سيناء.

المواقف الروسية الجديدة

في خضمّ هذا الصراع برز إلى العيان الموقف الروسي. فلقد كان لافتاً هذا الموقف في هذه الجولة من الصّراع، حين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنّ التصعيد الحاصل في منطقة الشرق الأوسط ما هو إلّا نتاج فشل الولايات المتحدة في إدارة ملفّ المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والذي احتكرته على مدى عقود ثلاثة ماضية على أقلّ تقدير. وقد أرفق بوتين هذا التصريح بتصريح آخر أعلن فيه أنّ حصار الاحتلال الإسرائيلي لغزّة يشبه حصار الألمان النازيين للنينغراد خلال الحرب العالمية الثانية. والجدير ذكره أنّ بوتين لم يقم فقط بوضع إسرائيل في نفس مرتبة ألمانيا النازية، وهو أمر جلل بالنّسبة للكيان الصهيوني، لكنّه أيضاً أثار مسألة فيها بعد شخصي يخصّه هو. فخلال الحرب العالمية الثانية كانت عائلته من ضمن المحاصرين في لنينغراد، وبالتّالي فإنّه عندما يقارن بين حصار غزة وحصار لنينغراد فإنّه يضع أهل غزة في نفس مرتبة عائلته هو التي عانت الأمّرين خلال حصار لنينغراد. إضافة إلى ذلك فإن بوتين أشار إلى أنّ الكثير من مواطني الكيان الصهيوني هم من حملة الجنسية الروسية ما يجعل روسيا معنية بأمنهم، وفي هذا إشارة إلى أنّ روسيا لن تترك إسرائيل للولايات المتحدة حتى تكون رصيداً لها في المنطقة، بل إنّ روسيا تريد حصّة لها من هذا الكيان.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يكتف بذلك، بل إنّه دعا إلى عقد قمة افتراضية لمجموعة بريكس خصصت نقاشاتها حول الوضع في الشرق الأوسط. وقد ألقى بوتين كلمة تحدث فيها عن حجم معاناة الشعب الفلسطيني خصوصاً في غزة خلال العملية العسكرية الإسرائيلية، كما أنّه تحدّث عن ازدواجية معايير الغرب في تناول القضايا حول العالم إضافة إلى انحيازهم التام لصالح إسرائيل. وهو دعا إلى مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط يستند إلى حلّ يقوم على الشرعيّة الدوليّة وحلّ الدولتين وهو بذلك ينسف مشروع صفقة القرن الأميركية التي لا تلحظ إقامة دولة فلسطينية في إطار التسوية الشاملة في الشرق الأوسط. وقد ترافقت تصريحات بوتين مع مواقف لعدد من المسؤولين الروس تصبّ في نفس الخانة كان أبرزها لمندوب روسيا الدائم لدى مجلس الأمن الدولي فاسيلي نيبينزيا، الذي خاض مواجهات دبلوماسية في مجلس الأمن ضد مندوبي الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة دعماً لقضية الشّعب الفلسطيني، والذي وصل به الحدّ إلى الإعلان أنّه لا يحقّ لإسرائيل الدفاع عن نفسها لأنّها دولة احتلال تعتدي على الشعب الفلسطيني.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يكتف بذلك، بل إنّه دعا إلى عقد قمة افتراضية لمجموعة بريكس خصصت نقاشاتها حول الوضع في الشرق الأوسط

دلالات هذه المواقف الروسية

هذه المواقف الروسية تنذر بسعي موسكو إلى العودة بقوّة إلى ملفّ المفاوضات العربية الإسرائيلية والذي همّش منذ العام 1972. ففي ذلك العام كان الرئيس المصري أنور السادات يقدم على خطوات انفتاح مع الولايات المتحدة ولهذاّ السبب فإنّه قام بطرد الخبراء السوفيات الذين كانوا قد أتوا إلى مصر لدعم المجهود الحربي المصري ضد اسرائيل في زمن الرئيس جمال عبد الناصر. وفي العام 1974 أعلن السادات أنّ الولايات المتّحدة تمتلك 99 بالمئة من أوراق الحلّ في الشرق الأوسط ما أضعف الموقف السوفياتي أكثر فأكثر. وقد شهدت مرحلة الثمانينات من القرن الماضي مزيداً من تدهور الموقف السوفياتي، خصوصاً مع الضعف الذي دبّ فيه والذي أدّى إلى انهيار كتلة الدول الاشتراكية التي كان يتزعّمها في العام 1989 وبعد ذلك انهياره في أواخر العام 1991. بعدها وعلى مدى ثلاثة عقود سيطرت الولايات المتحدة على عملية التفاوض في الشرق الأوسط، وانحازت لصالح إسرائيل في مسعى منها لاعتمادها قاعدة لنظام شرق أوسطي تابع لها، من ضمن استراتيجيتها للسيطرة على هذه المنطقة التي تصل بين ثلاث قارات، في إطار استراتيجيتها الكبرى لتطويق القوى الأوراسية الصاعدة وعلى رأسها الصين وروسيا وإيران.

من هنا فإنّ من شأن هذه المواقف الروسية الجديدة أن تعلن نهاية عهد الاستفراد الأميركي بملفّ التفاوض العربي الإسرائيلي كمقدّمة لطرح مؤتمر دولي جديد للسلام في الشرق الاوسط تكون روسيا عضواً مؤثراً ومقرراً فيه إلى جانب حليفتها الصين بالحدّ الأدنى. كذلك فإنّ من شأن إعلان روسيا التمسّك بقرارات الشرعية الدولية لحلّ القضية الفلسطينية، وذلك بالعودة إلى القرارين 242 و338 اللذين صدرا في أواخر الستينات ومنتصف السبعينات أن يساهما في إقامة دولة فلسطينية تكسر المشروع الصهيوني. عدا عن ذلك فإنّه عبر إعلان بوتين بأنّ روسيا معنية بإسرائيل بحكم أنّ الكثيير من مواطنيها هم من حملة الجنسية الروسية أن يكسر دور الولايات المتحدة كراع وحيد للكيان الصهيوني، وبالتّالي فإنّه يكسر إمكانية أن تعتمد واشنطن على تل ابيب كقاعدة ووكيل حصري لها في الشرق الأوسط، علماً أنّ المطالب الروسية ستحوّل الكيان إلى شركة مساهمة محدودة الفاعلية.

خلاصة

قد لا يكون الموقف الروسي مرضياً للكثير من العرب والمسلمين الذين يطالبون بتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، لكنّه سيكون ضربة موجعة وقاصمة لكلّ مشاريع الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط كما أنّه سيكون ضربة موجعة للكيان الصهيوني ككيان وظيفي يستمدّ قوّته من كونه امتداداً لمشاريع الهيمنة الاستعمارية الغربية. ومن شأن هذا أن يعطي متنفّسا كبيراً لحركة التحرّر الفلسطينية المجسّدة بفصائل المقاومة، كما أّن من شأنه أن يعطي مساحة كبيرة للدول العربية وقوى التحرّر العربية لأن تنهض وتلعب دوراً فاعلاً ومستقلاً في شؤون المنطقة.