أقرّت الحكومة للمرّة الرابعة منذ بدء الانهيار زيادات على رواتب وأجور موظّفي القطاع العام. مبالغ بآلاف المليارات من الليرات ما زالت "لا تُسمن ولا تُغني عن جوع". فهي من ناحية تُعتبر مساعدة اجتماعية لا تدخل في صلب الراتب، وبالتالي لا تشملها تعويضات نهاية الخدمة. وبقيت قيمتها من الناحية الثانية زهيدة جداً لا تتجاوز ثلث ما كان الموظفون يتقاضونه قبل اندلاع الازمة.

"التقديمات" التي قُدّمت للموظّفين والمتقاعدين في السلكين المدني والعسكري أتت على الشكل التالي:

أولاً: يُعطى العسكريون في الخدمة الفعلية في جميع الأسلاك 3 رواتب إضافية بحيث يُصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً، زائداً بدل نقل 9 ملايين ليرة لبنانية بدل 5 ملايين ليرة لبنانية.

ثانياً: يُعطى المتقاعدون، عسكريين ومدنيين 3 رواتب إضافية، بحيث يُصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً على أن لا تقلّ الزيادة عن 8 ملايين ليرة لبنانية، زائداً بدل سائق للضبّاط المتقاعدين الذين يستفيدون من سائق وقدره 5 ملايين ليرة لبنانية.

ثالثاً: يُعطى الإداريون (باستثناء القضاة والمعلّمين) راتبين إضافيين بحيث يُصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً.

رابعاً: يُعطى موظفو الإدارة بدل حضور يومي بين 8 و 16 صفيحة بنزين بحسب الفئات، وبمعدّل 14 يوم عمل في الشهر حدّاً أدنى بشرط عدم التغيّب. وعلى أساس مليون ونصف المليون سعر صفيحة البنزين.

خامساً: يُعطى موظفو الإدارة العامّة "مكافأة مثابرة" إذا أمّنوا حضوراً شهرياً كاملاً. وتراوح قيمة هذا البدل بين 15 مليون ليرة و25 مليوناً تبعاً للفئات الوظيفية.

هذه الزيادات كلها ستسري بمفعول رجعي بدءاً من 1-12-2023

الرواتب تتضاعف 9 مرّات والاتكال على المتوفّر من دولارات

من حيث الشكل، تضاعفت رواتب موظّفي القطاع العام 9 مرّات، وأصبحت تراوح بين 8 و30 مليون ليرة. وارتفع بدل النّقل اليومي من 450 ألف ليرة إلى ما بين 857 ألفاً للفئة الخامسة و1.7 مليون ليرة لموظّفي الفئة الأولى. هذا إذا اعتبرنا أنّ الموظّفين سيلتزمون الحدّ الأدنى للحضور المحدّد بـ 14 يوماً. كما كان من اللافت استبدال مصطلح "مكافأة مثابرة" بمصطلح "بدل الانتاجية" الذي يثير غيظ الموظفين، وتخفيض الحدّ الأدنى المطلوب للحصول على "المكرمة" إلى 14 يوماً، بدلاً من 20.

في المضمون، سترفع الزيادة الكلفة الشهرية لرواتب 400 ألف موظّف من 6200 مليار ليرة إلى 11 ألف مليار. وستشكّل ما بين 55 و60 في المئة ممّا تجبيه الدولة شهرياً من إيرادات إذا افترضنا أنّها تصل إلى 22.3 ترليون ليرة استناداً إلى أرقام موازنة 2024. وبالتّالي، فإنّ انعكاسها على التضخّم سيبقى مرهوناً بما يتوفّر في البلد من دولارات"، بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي. "فإذا توافرت الدولارات بكمّيات كافية لتغطية الطلب الناتج من مضاعفة الكتلة النقدية بالليرة فسيبقى التضخّم مضبوطاً، في حين أنّ زيادة الطلب على الدولار عن المعروض، سيرفع التضخّم مرة جديدة". ولكن هل تتوفّر الدولارات لتغطية ما سيضاف إلى الكتلة النقدية من ليرات؟ يجيب يشّوعي أنّ "توفّر الدولار مرتبط حصراً بمقدار تحويلات المغتربين، لأنّ لبنان فقد كلّ المقوّمات الاقتصادية التي تدخل الدولار، مثل الاستثمارات والصادرات والإنتاج. ومن المهم أن لا يتدخل المصرف المركزي في تحويل كتلة الأجور إلى الدولار كما كان يفعل سابقاً، لأنّه يرفع الطلب إلى 100 في المئة، في حين أنّ المستهلك قد لا يلجأ إلى تحويل جميع الليرات إلى دولارات نظراً لسداده بالليرة مجموعة من المتوجّبات كالضرائب والرسوم والإيجارات والأقساط وغيرها من المتطلّبات.

سترفع الزيادة الكلفة الشهرية لرواتب 400 ألف موظّف من 6200 مليار ليرة إلى 11 ألف مليار.

المصارف تستبق الزيادات بالتحذير من "الأنتربنك"

المصارف كانت قد استبقت الزيادة التي ستعطى والتي ستمرّ عبرها حكماً بالتحذير من ارتفاع فائدة الاِنتربنك في ما بينها التي أصبحت تصل على مدى طويلة إلى نحو 80 في المئة. و"صحيح أنّ هذه الفائدة لا تنعكس ارتفاعاً بالكلفة على سحوبات المودعين بالليرة، إلّا أنّها تؤدّي إلى تقليص المصارف كمّية الليرات التي تدفعها ووضع سقف منخفض للسحوبات"، برأي المستشار المالي الدكتور غسان شماس، لأنّ كلفة هذه الأموال كبيرة جداً عليها. وعليه، استبقت المصارف زيادة الرواتب بالتحذير من "الانتربنك" لتضغط على "المركزي" من أجل زيادة كمّيّة الليرات المستحقّة لها من ودائعها بالليرة لديه". والجدير بالذكر أنّ "الانتربنك" هي الفائدة التي تدفعها المصارف في ما بينها مقابل الحصول على الليرات لفترات قصيرة. وهي تعكس بشكل واضح شحّ الليرة وتحوّل التداول إلى الدولار النقدي بشكل كبير. تستعمل العملة الوطنية في مثل هذه المواضع تحديداً:

التسديد من حسابات الليرة.

تسديد بدلات الخدمات كالفواتير الموطّنة للكهرباء والمياه والايجارات...

التسديد من حسابات الدولار بالليرة وعلى سعر صرف 15 ألف ليرة اليوم، وهي الحسابات التي اصطلح على تسميتها بحسابات اللولار.

تسديد مصاريف تشغيلية من رواتب وإيجارات وضرائب ورسوم.

الاعتراضات على الزيادات

الزيادة على الرواتب لاقت اعتراض العسكريين المتقاعدين من منطلق أنّ قانون الدفاع ينصّ على أنّ أجر التقاعد يمثل 85 في المئة من الراتب في الخدمة الفعلية. في حين أنّ الإضافات إلى راتب التقاعد رفعته إلى 60 في المئة فقط. وبالتالي ما زال هناك نقص يبلغ نحو 25 في المئة حق لهم بحسب قانون الدفاع لم يحصلوا عليه. في المقابل أعلنت الهيئة الإدارية لرابطة موظّفي الإدارة العامّة تعليق إضرابها إلى حين معرفة جميع المواد الغامضة التي تضمّنها المرسوم الذي صدر عن مجلس الوزراء، والتثبّت من عدالتها وعدم تمييزها بين موظّفي الإدارة العامّة. وذلك إفساحاً في المجال أمام المواطنين لإتمام معاملاتهم العالقة في الإدارات العامّة برغم عدم توازن الحوافز مع حقوق الموظفين، مع التأكيد على ضرورة المباشرة بتصحيح الرواتب عبر سلسلة رواتب تراعي الواقع الاقتصادي المستجد.

مرّة جديدة تخطو الحكومة "خطوة ناقصة" في اتجاه تحسين أوضاع العاملين في القطاع العام. فالزيادة "المربّعة" المعطاة لا تدخل في صلب الراتب، ولا تترافق مع تحسين التقديمات الاجتماعية من صحّية ومدرسية واستشفائية. و"بخار" الزيادات الصاعد إلى الرؤوس لن تلبث أن تبدّده الارتفاعات في الأسعار والخدمات لنعود بعد شهر أو شهرين إلى الإضراب من جديد من أجل الضغط على زيادة الرواتب. في حين أنّ المطلوب واحد: تحقيق الإصلاحات وإعادة هيكلة القطاع العام.