منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، استطاعت الولايات المتحدة الأميركية أن تبسط هيمنتها العالمية بالاعتماد على قدرتها المالية بالدرجة الأولى. وهي لم تنتظر نهاية تلك الحرب لتعقد مؤتمر بريتون وودز الذي أمّن لها هذه الهيمنة عبر اعتماد الدولار عملة للتداول في التجارة الدولية، وعبر إنشاء صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين شكّلا الذراع الرئيسة لبسط الهيمنة المالية الأميركية في العالم. هذا الواقع جعل رئيس الوزراء الهندي الأسبق جواهر لال نهرو يحذّر من نمط جديد من الهيمنة الكولونيالية التي تُفرَض، لا عبر الجيوش والاحتلالات العسكرية، بل عبر الهيمنة المالية، وهو ما جعله يعتمد التعبير الذي أطلقه الزعيم السوفياتي الشهير فلاديمير ايلتش لينين وهو "الإمبريالية".  

ولقد استمرّت هيمنة الدولار بالاستناد إلى ذهب دول العالم الذي كُدّس في فورت نوكس بالقرب من قاعدة عسكرية أميركية في ولاية كنتاكي طوال ربع قرن. وعندما ازدادت حاجة الولايات المتحدة إلى طبع العملة من دون حساب في بداية السبعينات من القرن الماضي، أعلن الرئيس ريتشارد نكسون فكّ ارتباط عملة بلاده بالذهب، مراهناً على الطلب المتزايد على الدولار في السوق العالمية. وفي العام 1976 سيقوم وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر بالاتفاق مع الأسرة الحاكمة في المملكة العربية السعودية على ربط مبيعات البترول في السوق العالمية بالدولار الأميركي، وهذا أعطى العملة الأميركية زخماً جديداً ضاعف قدرتها على ممارسة الهيمنة خلال الثمانينات من القرن الماضي، وهو ما شكّل أحد عوامل الانتصار الأميركي في الحرب الباردة في بداية التسعينات من القرن الماضي، مؤذناً ببدء عهد الأحادية القطبية خلال التسعينات من القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة.  

لكن يبدو أنّ زمن هيمنة الدولار يشارف الانتهاء مع حلول العام 2024، في ظلّ إعلان مجموعة "البريكس" التي أطلقتها روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، والتي انضمّت إليها خمس دول جديدة مع مطلع هذا العام وهي أثيوبيا ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران، عن عزمها إطلاق عملة موحّدة تكون بديلاً من الدولار الأميركي في التعاملات التجارية لهذه الدول في ما بينها. هذه الخطوة جاءت نتيجة شعور الدول الأعضاء في "البريكس" التي تنادي بنظام عالمي جديد ينهي الأحادية القطبية الأميركية ويقيم نظاماً متعدّد الأقطاب واكثر عدالة، بأنّ كلّ ما فعلته حتّى الآن لن ينفع ما دام الدولار لا يزال عملة التداول العالمية.  

فبمعزل عن القدرات العسكرية التي وصلت فيها دول البريكس إلى حالة من الردع مع المعسكر الغربي، نتيجة مضاعفة القوة العسكرية الروسية بالدرجة الأولى، فإنّ الولايات المتحدّة كانت قادرة دائماً على ليّ ذراع خصومها، عبر فرض العقوبات المالية عليهم، وهذا ما حصل في حالة إيران وروسيا وفنزويلا وسوريا وكوبا وعشرات من الدول غيرها. لذا فإنّ منظومة "البريكس" التي أخذت قراراً برفع سقف التحدي، خصوصاً بدفع من بكين عقب اعتماد مقرّرات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، قرّرت تفعيل بنك التنمية الجديد الذي من المفترض أن يلعب دوراً بديلاً من صندوق النقد والبنك الدوليين. كذلك فإنّ هذه الدول التي كانت قد بدأت بالاعتماد على نوع من أنظمة المقايضة والتبادل التجاري بالعملات المحلّية للتخلّص من الرقابة الأميركية المالية عبر نظام سويفت، قررت تفعيل نظام تبادل مالي منفصل عن السويفت وإطلاق عملة موحدة للبريكس في العام 2024.  

وكخطوة تمهيدية، قررت مجموعة "بريكس" إطلاق سندات جديدة في الأسواق العالمية، ستكون متاحة بالعملات المحلّية بدلاً من الدولار الأميركي. وذكرت وكالة انباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنّ بنك التنمية الجديد سيصدر قريباً سندات تسمّى "سندات المهراجا" مقدارها 28 مليار دولار، مع الاعتماد على العملات المشفّرة، وذلك بعد موافقة السلطات التنظيمية، وفقاً لما أعلنه الرئيس التنفيذي للعمليات في البنك المذكور فلاديمير كازبيكوف. وستكون السندات الجديدة، بحسب الموقع، متاحة للشراء من قبل الحكومات والمؤسسات المالية والمستثمرين العاديين بالعملات المحلّية، في محاولة لتعزيزها وللمساعدة في تعزيز اقتصاداتها. 

توجه صيني نحو اعتماد على عملات مشفّرة


وقد توقّع الخبراء تحدّيات كبيرة للدولار الأميركي في العام 2024. ومن المؤكّد أنّ توسّع التحالف الاقتصادي قد خلق عقبة أمام العملة الأميركية. وحذّر الخبراء من التأثير الذي يمكن أن يحدثه التوسّع على الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، فقد حدّدوا جهود التوسّع باعتبارها تحصل بعيداً عن الميدان الذي يهيمن عليه الدولار الأميركي. وأشاروا إلى أنّ من شأن هذه الخطوة أن تنهي هيمنة الدولار، خصوصاً أنّ حجم اقتصادات دول مجموعة بريكس أكبر من حجم اقتصادات الدول الصناعية السبع. وممّا يزيد من المخاطر بالنّسبة إلى الدولار هو استعداد دول منتجة للنفط، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، لبيع نفطها باليوان الصيني، مستغنيةً عن الدولار الأميركي.  

وما سيزيد من الضغوط على الدولار هو توجّه الصين إلى الاعتماد على عملات مشفّرة، وهذا ما جعل عدداً من الشركات تطلق عملات مشفّرة جديدة، آخرها "باندوشي". هذه العملة التي يبلغ ثمنها سنتات قليلة، من المتوقّع أن يرتفع سعرها بشكل سريع ليتجاوز الدولار الواحد. وقد اجتذبت باندوشي اهتمامًا كبيرًا من المستثمرين، لأنّها تجمع التكنولوجيا المبتكرة والنهج الفريد للتمويل اللامركزي، ممّا يجعلها منافساً قوياً في مجال العملات الرقمية. ويتوقّع مراقبون ماليون أنّ تجتذب هذه العملة، مع فائدتها المقنعة وخطط النمو الاستراتيجي، مستثمري العملات المشفّرة، مما يؤشّر إلى مستقبل واعد لها. ومن المعروف أنّ عملة البيتكوين ترتبط عكسياً بالدولار الأميركي. وقد جاء ارتفاع العملة المشفّرة في الربع الرابع من عام 2023 بنسبة 50 في المئة بالتوازي مع انخفاض مؤشّر الدولار بنسبة 4.5 بالمئة. والجدير ذكره أنّ بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) يربط قيمة اليوان الصيني بسلّة مكوّنة من 24 عملة من خلال نظام التعويم المُدار، وهذا يسمح للعملة المحلّية بالتقلّب بنسبة 2 في المئة على جانبي النقطة المرجعية. وأخيراً بدأت البنوك الصينية المملوكة للدولة بالتخلص من احتياطياتها من الدولار.  

هذا كله يمكن أن يؤدي إلى ضغوط كبيرة على الدولار وتهديد هيمنته في العالم. ومن شأن هذا ألّا يؤثّر على فرص الهيمنة الأميركية في الساحة الدولية فحسب، بل هو سيؤثّر حتماً على الاقتصاد الأميركي. فعندما ستتخلّى كتلة اقتصادية عالمية كبرى عن الدولار، فإنّ كتلة نقدية كبيرة الحجم سترتدّ إلى داخل الولايات المتحدة،  فيؤدّي ذلك إلى مضاعفة المخاطر من تضخّم مالي كبير جداً سيكون له تأثيره على الازدهار الاقتصادي الأميركي وارتدادات على الاستقرار الاجتماعي، وعلى الاستقرار السياسي أيضاً.