لاقى "الحظ العاثر" فلاحي لبنان باكراً هذا العام. فبعد أشهر على الحراثة والزراعة والري بشق الأنفاس، طلع الإنتاج "بطاطا". فهذه النبتة المصنفة رابعة عالمياً من حيث الأهمية في النظام الغذائي، لكونها من الأرخص والأكثر انتشاراً، زادت في الرخص هذا الموسم حتى "فلقت المزارعين". وعلى الرغم من ارتباط البطاطا تاريخياً في ثقافة الشعوب بـ "أكل الفقراء"، فقد أفقرت هذا العام منتجيها أيضاً. فصحّت أغنية الراحلة صباح، إحدى أشهر المطربات اللبنانيات، عن تواضع هذه النبتة بقولها، "عالبساطة البساطة يا عيني عالبساطة (...)، تغديني جبنة وزيتونة وتعشيني بطاطا".
مجموعة من الأسباب، الطبيعية وغير الطبيعية، اجتمعت هذا العام لتضرب موسمَي البطاطا البقاعية (ابتداء 25 حزيران)، وقبلها العكارية (ابتداء من 15 نيسان)، وتلحق بالمزارعين خسائر جسيمة. فقد تدنى في فترة الحصاد سعر البيع في سوق الجملة عن كلفة الإنتاج بحوالي 40 في المئة. وهذه النسبة التي تعتبر من الأعلى، لا تكبّد المزارع الكثير من الأكلاف المالية فحسب، إنما تحدّ من قدرته على استصلاح الأرض والاستمرار بالإنتاج الزراعي، ولا سيما أنها تأتي عقب خمس سنوات "عجاف"، كانت أقسى على المزارعين نتيجة انهيار قيمة العملة الوطنية، وتراجع القدرة الشرائية داخلياً، وعرقلة الصادرات الخارجية إلى الدول العربية، وارتفاع كلفتها.
الأسباب الطبيعية
أوّل الأسباب التي أثرت سلباً على إنتاج البطاطا كانت التغيّرات المناخية. فقد مني لبنان هذا العام بطقس جاف، اضطر معه المزارعون إلى الاعتماد على شفط المياه لري المحاصيل. ويعتمد المزارعون في البقاع على الآبار الأرتوازية التي "غارت فيها المياه إلى أعماق تتجاوز 200 متر، بعدما كانت تشفط من أعماق لا تتجاوز 50 متراً، على ما يقول رئيس اتحاد الفلاحين اللبنانيين ابراهيم الترشيشي، فارتفعت كلفة الري من 7 إلى 30 في المئة ولا سيّما مع ارتفاع سعر الكيلوواط ساعة من كهرباء الدولة إلى 27 سنتا، وتجاوزه 60 سنتا في حال الاشتراك من أصحاب المولّدات الخاصة. ومما زاد ارتفاع الكلفة فرض الدولة ضريبة الدولارَين على كل صفيحة مازوت، انعكست بشكل مباشر على المستهلكين. إزاء هذا الواقع ارتفعت كلفة انتاج كيلو البطاطا إلى أكثر من 30 ألف ليرة"، يقول الترشيشي، فيما كانت الصدمة أن سعر البيع في سوق الجملة لا يتجاوز 20 ألف ليرة.
تراجع الأمطار وعدم قدرة العديد من المزارعين على تحمل كلفة الري، بالإضافة إلى التقلبات المناخية بين حر وبرودة في غير أوقاتهما المعتادة، أثّرت سلبا على كمية الإنتاج ونوعيته بحسب الترشيشي، إذ "من المقدر أن تتراوح الكمية المنتجة بين 125 و150 ألف طن من البطاطا بجودة متوسطة، بعدما كانت التوقعات تشير إلى إمكانية إنتاج 200 طن من البطاطا ذات الجودة العالية، بالنظر إلى زراعة مساحات تمتد على 60 ألف دونم".
الأسباب غير الطبيعية
المفارقة أن تراجع الإنتاج لم ينعكس تحسناً بالأسعار ، كما يفترض بحسب "قاعدة العرض والطلب" الاقتصادية، نظراً لفيض الكميات المنتجة عن حاجات السوق اللبنانية. فإضافة إلى العوامل الطبيعية تستمر معاناة المزارعين غير الطبيعية، مع إقفال أبواب التصدير الخارجية إلى العديد من الوجهات العربية، وارتفاع كلفتها بحوالي الضعفين عما كانت عليه سابقا. فالمزارعون يضطرون إلى "تسفير" البضائع إلى دول الخليج عبر السفن التجارية التي تعبر المتوسط إلى جبل علي، مروراً بقناة السويس والبحر الأحمر. وتكلف هذه الرحلة 5500 دولار للحاوية النمطية الواحدة وتتطلب شهرا كاملاً"، بحسب الترشيشي، في حين أن رسوم عبورها البري في الماضي القريب كانت زهيدة جدا وتتطلب بضعة أيام فقط. وهذا ما حُرم المزارعون والمصدرون اللبنانيون منه، جراء ارتفاع كلفة العبور بالأراضي السورية واستمرار إقفال الأسواق السعودية ومنها إلى بقية الدول الخليجية، في وجه البضائع المصدرة من لبنان. وتتعرض البضائع اللبنانية بعد وصولها إلى الأسواق الخارجية إلى منافسة قوية، من مختلف الدول التي تتحمل أكلاف نقل أقل بكثير من كلفة التصدير من لبنان، ما يحد من القدرة على تصريفها.
الحلول موجودة، وأهمها من وجهة نظر الترشيشي:
- العودة إلى الدعم الزراعي عبر مؤسسة إيدال.
- رفع ضريبة المازوت عن المزارعين.
- العمل على فتح الطريق البرية.
- الحد من استيراد البطاطا المثلجة، ومنتجات رقائق البطاطا المصنّعة، الأمر الذي يرفع الطلب على البطاطا المصنعة محليا، وبالتالي يزيد من استهلاك المصانع للبطاطا اللبنانية.
- الوقوف إلى جانب مزارعي البطاطا وتنظيم مؤتمر متخصص لمزارعيها يعرض المشاكل ويعرض إطاراً زمنياً لتطبيق الحلول التي يتفق عليها.
- التواصل مع شركات الشحن العالمية التي يملكها لبنانيون، لتخفيض الاكلاف على المزارعين اللبنانيين استثنائياً هذه الفترة.
- بدء التفكير بزراعات بديلة تكون أكثر ملاءمة للتبدلات المناخية التي يشهدها لبنان.
- التعويض على المزارعين. على الرغم من أن التجارب تثبت أن المس بـ "جيب الدول" أمر مفقود الامل منه.
- التسريع بإصدار المراسيم التطبيقية لزراعة القنب الهندي.
الفائض من إنتاج البطاطا يخزَّن حالياً في البرادات، ومن المطلوب إيجاد الحل لتصريفه سريعا نظرا لكون قدرة المزراعين على تحمل كلفة البرادات المرتفعة، محدودة جدا. وإن كان من الصعوبة بمكان فتح الطريق البرية، فليجد المسؤولون طريقة لتصريف الإنتاج"، يطالب الترشيشي، قبل إخراج الخيرات من البرّادات وإطعامها للحيوانات.