دخل الموز اللبناني دائرة الصراع الذي انفجر في سوريا في العام 2011، كلاعب ضعيف مهيض الجناحين. فالأسواق السّورية التي شكّلت تاريخياً متنفّساً لمزارعي هذه الفاكهة ومصدريها لتصريف آلاف الأطنان من الإنتاج سنوياً، عرقلت عمليات الاستيراد بحجة العديد من الذرائع. فتشابكت الحسابات السياسية مع المصالح الاقتصادية وحاجة النظام إلى العملة الصعبة، ودفع الموز الثمن الأكبر كساداً في الداخل، وانخفاضاً هائلاً في الأسعار لا يعوّض كلفة الإنتاج المرتفعة.

طبّق تصدير الموز إلى سوريا خلال السنوات الماضية المثل الشامي القائل: "لا مع سيدي بخير، ولا مع ستّي بخير". فمناطق المعارضة ترفض استقباله بحجّة أنه ينتج في جنوب لبنان. في حين يتصدّى مزارعو الحمضيّات في مناطق النظام لاستيراده بحجّة أنّ أسعاره المنخفضة تشكّل بديلاً عن انتاجهم ومنافساً قوياً لمستهلكين قدرتهم الشرائية شبه معدومة. وممّا زاد الأمور تعقيداً فرضُ الحكومة السورية على المصدّرين الأجانب قبل نحو ثلاث سنوات وضع تأمين ماليّ بالعملة الصعبة في المصرف المركزي كضمانة، على أن يستردّ هذا المبلغ بعد فترة معينة. كما عمدت إلى رفع رسوم العبور ومختلف المعاملات الجمركية على الحدود. فأدّى ذلك إلى إحجام العديد من المزارعين – المصدّرين عن تسفير الإنتاج لعجزهم عن تحمل التكاليف. وبالتّالي اضطرارهم إلى بيع الإنتاج بالسوق المحلّيّة دون سعر الكلفة.

تدنّي سعر الموز مع تراجع التصدير

وبالفعل "تدنّى سعر مبيع كيلوغرام الموز بالجملة في الأسواق المحلّية عن 25 ألف ليرة، أو ما يقرب من ربع دولار، مع بدء الموسم هذا العام"، كما يفيد مزارعون. "وهذا الرقم يقلّ بنحو 50 في المئة عن كلفة الإنتاج الفعلية، وعن السعر الذي كان يباع به الموز قبل العام 2019، والذي كان يقدّر بحوالى نصف دولار، أو 750 ليرة على سعر الصرف القديم 1500 ليرة مقابل الدولار". التدنّي الكبير في الأسعار يعود بجزء منه إلى زيادة العرض عن الطلب، بعد عجز العديد من المزارعين عن تصدير إنتاجهم إلى الدول العربية من جهة، بسبب قيود منع الاستيراد من لبنان، وإلى سوريا من الجهة الثانية بسبب ارتفاع تكلفة التأمين بشكل كبير. "فالتأمينات التي فرضتها الحكومة السورية على المصدّرين قبل ثلاث سنوات ما زالت مستمرّة، وهي تفرض تجميد 270 ألف دولار في المصرف المركزي السوري لما لا يقل عن ثلاثة أشهر مقابل تصدير 500 طن، إذا كان تقدير سعر الطن الواحد 850 دولاراً"، يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عمران فخري. وكثير من المزارعين المصدّرين يعجزون في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها لبنان عن تجميد مثل هذا المبلغ. "ولا سيما أنّ فترة الاسترداد قد تطول بسبب الإجراءات المتصلة بالفترة المحدّدة. وقد وصلت في بعض الحالات خلال العام الماضي إلى ما بين سنة وسنة ونصف"، بحسب فخري. ومع العجز عن تأمين هذا المبلغ وتجميده "قرّر كثير من المزارعين التوقّف عن التصدير، وبيع انتاجهم في السوق المحلّية. فزاد العرض وتراجعت الأسعار ومني المزارعون بخسائر كبيرة". ويحتّم هذا الواقع على الحكومة اللبنانية من وجهة نظر فخري "التواصل مع الحكومة السورية من أجل إيجاد حلّ لهذه المشكلة". خصوصاً أنّ البلدين مرتبطان باتفاقيات عامّة، وخاصّة لتسهيل التجارة، مثل اتفاقية التيسير العربية ومعاهدة التعاون والتنسيق. وتنصّ الأخيرة في مضمونها على "تسهيل المعاملات التجارية وتذليل العقبات وفتح الأسواق أمام المنتجات من دون حواجز ومعوقات".

الخشية السورية من التوسّع في استيراد الموز اللبناني

رفع قيمة التأمينات على إدخال الموز، أتت عقب اتفاق وزيري الزراعة السوري واللبناني على هامش مؤتمر منظّمة الأغذية والزراعة الإقليمي للشرق الأدنى الذي عقد في بغداد في العام 2022، على رفع كمّية استيراد الموز من 250 طناً إلى 500 طن لكلّ مستورد، وبكمّية إجمالية تصل إلى 50 ألف طن من الموز اللبناني، بعدما كانت 30 ألفاً فقط، وموافقة الحكومة السورية أيضاً على خفض السعر الاسترشادي من 850 دولاراً إلى 500.

وبإزاء هذا الواقع يخشى المزارعون السوريون من أن يؤدّي التوسّع باستيراد الموز اللبناني إلى كساد منتجاتهم. وبحسب تصريح الخبير الاقتصاد جورج خزام المنشور على موقع "بلدي نيوز"، فإنّ "كمّية الموز التي سوف تدخل الأسواق السورية ستكون السبب الكامن وراء كساد وخسائر وضعف الطلب على أصناف متعدّدة من الفواكه السورية، وأهمّها الحمضيات. واقترح أن يتمّ الاتفاق مع الجانب اللبناني على مقايضة الحمضيات السورية بالموز اللبناني بنفس قيمة الفاتورة بالدولار، أو على الأقلّ مقابل تسويق 30,000 طن من الحمضيات السورية في لبنان والأسواق الخارجية". وقال خزام في منشور له على فيسبوك: "لولا السوق السورية لوقع الكساد سنوياً بالموز اللبناني". متسائلاً: لماذا سوريا تقع بكساد الحمضيات علماً أنّ لبنان يستطيع تصدير كلّ الحمضيات السورية لكلّ دول العالم دون عقبات أو حتى تصنيع العصائر الطبيعية وتصديرها. البرّاد (شاحنة النقل الخارجي المبردة) الذي يدخل إلى سوريا محمّلاً بالموز يجب أن يعود إلى لبنان محمّلاً بالحمضيات، وهذه المقايضة ستحقق تعويضاً للمزارعين عن تراجع الطلب".

تجاوز الاتفاقيات

ما يجري بين لبنان وسوريا على الصعيد التجاري لا يتوافق مع اتفاقية التعاون والتيسير الموقّعة في العام 1991. فهذه الاتفاقية تنصّ في عنوانها العريض على عمل الدولتين على تحقيق التعاون والتنسيق بينهما في المجالات الاقتصادية والزراعية والصناعية والتجارية والنقل والمواصلات والجمارك وإقامة المشاريع المشتركة وتنسيق خطط التنمية. كما أوجدت الاتفاقية "لجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية" التي تجتمع دورياً كلّ شهرين للعمل على التنسيق الاقتصادي والاجتماعي وإعداد التوصيات. وعليه فإنّ ما يتّخذ اليوم من إجراءات "تعتبر داخلية"، بحسب الرئيس السابق للمؤسّسة العامّة لتشجيع الاستثمارات في لبنان – إيدال، نبيل عياني. "وخصوصاً في ما يتعلّق بالرسوم والتأمينات التي تأتي من باب حاجة سوريا للعملة الصعبة، ومحاولتها استغلال مواردها لمجابهة الوضع الاقتصادي والمالي الصعب الذي تمرّ به". بيد أنّ "الأمور تعود للتكيّف"، يستدرك عيتاني. "فالعلاقة مع سوريا ليست عقدة" من وجهة نظره. "وكلّ الدول تأخذ إجراءات لحماية انتاجها ومصالح منتجيها. ولا جهة تلتزم حرفياً بالمعاهدات والاتفاقيات. والكلّ يخرقها وفقاً لمصالحه، ما عدا لبنان الغائب عن حاله وساحته قبل أن يكون غائباً عن المشهد العام. ولا يستطيع اتّخاذ أيّ إجراءات أو المفاوضة من موقع القوي القادر في ظلّ الفراغ السياسي ووجود وزراء في تصريف الأعمال لا يمونون على أكثر من موظّفي إداراتهم".

المشكلات التي تواجه تصدير الموز إلى سوريا، وأسعاره التي أصبحت بـ "الأرض"، يترافقان مع إحجام شركات الشحن العالمية عن المرور بالبحر الأحمر وصولاً للمتوسّط. وهذا ما حتّم على الصادرات اللبنانية قطع مسافات أطول للوصول إلى الأسواق الخارجية، وتكبّد المزيد من التكاليف، وتعريض العديد من المنتجات للتلف بسبب الوقت.