كما يَبثّ الضوءُ الأخضر على شاشات البورصة التفاؤلَ في عقول المستثمرين، يبعث تحسّن ميزان المدفوعات بعض الأمل في نفوس اللبنانيين. فهذا المؤشّر المحاسبي، "الماكرو – إيكونومي" المهمّ، يعني ببساطة أنّ كمّية العملات الأجنبية التي دخلت البلد، أكبر من تلك التي خرجت منه. وفي ذلك دلالات أكيدة على تغيّرات اقتصادية إيجابية. إلّا أنّ السؤال: هل التبدّلات التي دفعت ميزان المدفوعات لتحقيق فائض بعد سنوات من العجز، ظرفية أم بنيوية؟

يُظهر التقرير الأخير لمصرف لبنان تحقيق ميزان المدفوعات فائضاً مقداره 1.65 مليار دولار بحلول شهر تشرين الثاني 2023. وهو ما يتجاوز بكثير العجز المحقّق خلال الفترة نفسها من العام 2022، بقيمة 3.21 مليار دولار. وتظهر أهمية الرقم المحقّق في العام 2023 لدى مقارنته بالعجز التراكمي منذ بداية الأزمة في العام 2019، والذي تجاوز 20 مليار دولار خلال 4 سنوات فقط، بحسب ما يظهر الرسم البياني المنشور على موقع بلوم بنك. نصف المبلغ سُجّل في العام 2020 وحده، بعجر تجاوز 10.2 مليار دولار.  

أهمّية ميزان المدفوعات

ينضوي تحت ميزان المدفوعات ثلاث حسابات رئيسية: الحساب الجاري الذي يحتسب تدفّقات البضائع والخدمات.

الحساب الرأسمالي الذي يتعلق بالتحويلات الرأسمالية. والحساب المالي، الذي يقيس التدفّقات الاستثمارية الداخلة والخارجة. وما حصل بعد العام 2019 هو تسجيل عجز قياسي في الحسابات الثلاث، حيث أدّى الدّعم على السلع والبضائع بين العامين 2020 و2021 بقيمة تجاوزت 10 مليار إلى أوسع عملية استيراد. فيما دفع الإعلان عن رفع الدولار الجمركي قبل أشهر من تغييره، التجار إلى تنفيذ أوسع عملية استيراد خلال العام 2022، من أجل التخزين ورفع هوامش الربح في ما بعد. ما رفع العجز في الميزان التجاري إلى حوالي 16 مليار دولار مع نهاية هذا العام. أمّا على صعيد الحساب الرأسمالي فشهدت الأعوام 2019 و2020 و2021 أوسع عملية إخراج للأموال، وتحديداً المتعلّقة بالحسابات الائتمانية fiduciary account. وأدّى التعثّر في تسديد الديون إلى تراجع التحويلات الاستثمارية الواردة. فيما دفع الوباء العالمي covid19 وما رافقه من حجر صحي إلى تراجع الانفاق السياحي وتعطّل مختلف المرافق الاقتصادية ذات الصلة.

ميزان المدفوعات وسعر الصّرف

اجتماع هذه العوامل فاقم العجز في ميزان المدفوعات ودفع إلى تعميق انهيار سعر الصرف، حيث خسرت الليرة خلال السنوات الأربع القليلة الماضية أكثر من 98 في المئة من قيمتها. وعليه فإنّ "الأهمّ من الرقم المحقّق على صعيد ميزان المدفوعات في العام 2023 بمقدار 1.65 مليار دولار، هو الاتجاه الذي يبدو إيجابيا نتيجة جملة من الأسباب"، بحسب الخبير في الأسواق المالية صائب الزين. "منها على سبيل الذكر لا الحصر: الاستقرار في سعر الصرف منذ شهر آذار 2023 تقريبا. التحسن في وضع القطاع الخاص. عودة الثقة بالمصرف المركزي منذ نهاية تموز الماضي. وعودة المصارف للعمل بشكل أكثر فعالية، خصوصاً في ما يتعلق بالحسابات الطازجة". ومن الملاحظ انّ عودة النشاط في واقع القطاع الخاص الذي تحدث عنه الزين كان قد دلّ عليه، خلال الفصول الثلاثة الأولى من العام الماضي، التحسّن الكبير في مؤشر مديري المشتريات الذي يصدره بلوم بنك، والذي مع الأسف عاد للتراجع مع بدء الحرب على غزّة وجنوب لبنان مطلع تشرين الأول 2023. ومن الممكن بحسب الزين أن "يكون الرقم الحقيقي للتدفّقات المالية الداخلة أكبر من المعلن أو المصرّح عنه. ذلك لكون كثر من اللبنانيين يدخلون الأموال نقداً عند قدومهم إلى لبنان". ويتجنّبون إرسالها عبر شركات تحويل الأموال أو من خلال الحوالات المصرفية.

التحوّل ظرفي أكثر ممّا هو بنيوي

الاتجاه الإيجابي لميزان المدفوعات قد يستمرّ خلال العام الحالي بحسب التوقعات. إذ أنّ انخفاض فاتورة الاستيراد نتيجة ارتفاع الدولار الجمركي، وتراجع الاستهلاك الداخلي، وعودة جزء من الأموال التي خرجت في بداية الأزمة للتوظيف والاستثمار في الداخل ستنعكس إيجابا على الحسابين التجاري والرأسمالي. وتراجع العجز في هذين الحسابين سيكون له التأثير الأكبر على وضع ميزان المدفوعات. هذا بالإضافة إلى ارتفاع إنفاق المغتربين والسيّاح، واستمرار تدفّق التحويلات المالية المباشرة التي ناهزت 6.4 مليار دولار خلال العام الماضي. ومن المتوقع ان تنعكس هذه الايجابية بدورها على سعر الصرف، ذلك أنّه في غياب التمويل الخارجي للدولة والقطاع الخاص فإنّ ما يحكم سعر الصرف هو ميزان المدفوعات. وقد ترافق استقرار سعر الصرف والإيجابية في ميزان المدفوعات منذ نيسان 2023.

ترسيخ الإيجابية

من الواضح أنّ الايجابية المحقّقة في ميزان المدفوعات، والمترافقة مع استقرار في سعر الصرف لا زالت ظرفية. وما لم يتمّ تثبيت السياسة النقدية التي يتبعها مصرف لبنان، والتي تنصّ على عدم تمويل الدولة، بقانون، وإقرار القوانين الإصلاحية الأخرى، فإنّ عودة العجز تبقى الاحتمال الأكبر. خصوصاً أنّ الدولة تجمّد منذ فترة الزيادات على رواتب القطاع العام، وهي مقلّة في الانفاق على الضروريات التشغيلية، ودفع المستحقات للمتعاقدين معها من مقاولين ومستشفيات ومؤسسات ضامنه... ومتوقّفة عن كلّ أشكال الإنفاق الاستثماري. أو ما يعني بعبارة أخرى تؤجّل عجزها. أمّا مصرفياً فإن لم يتم العمل على استعادة الثقة، فإنّ المودعين سيسحبون كل ما يسمح، وسيسمح لهم بسحبه لاختزانه أو انفاقه على الاستهلاك أو إخراجه من البلد، وفي الحالات الثلاث سيرتدّ الأمر سلباً على ميزان المدفوعات. وعلى الصعيد الوطني فإنّ ضمان استمرار تدفّق الأموال من السياح أو بشكل مباشر من المستثمرين يتطلّب الاستقرارين السياسي والأمني. وما لم نشهد تحوّلات جذرية في الأمور الإصلاحية فإنّ الفائض في ميزان المدفوعات سيبقى ظرفياً وقد يعود إلى العجز والعجز الكبير عن أيّ تغيير في العوامل والظروف.

الإيجابية التي حقّقها ميزان المدفوعات لا زالت يتيمة. وما لم يتمّ تعزيزها بخفض العجز في الميزان التجاري، ليس فقط من خلال تخفيض الاستيراد إنّما زيادة الصادرات، وزيادة التدفقات الداخلة، فإنّ لعنة العجز ستعود لتلاحقه طويلاً.