مع تعاظم حدّة المعارك يوماً بعد يوم عند الحدود اللبنانية الجنوبية بين المقاومة اللبنانية والجيش الإسرائيلي، تتجه الأنظار إلى دقّة الاغتيالات التي ينفّذها جيش العدو من ناحية والاستهداف الدقيق للمقاومة للمواقع الإسرائيلية المكشوف منها والسري، ممّا يطرح أسئلة كثيرة حول الخروقات الأمنية على جانبي الحدود حيث أنّ التقنيات الحديثة تلعب دوراً أساسياً في هذا المجال.

ففي حين قام عناصر المقاومة اللبنانية التابعين لحزب الله بتدمير كافّة أجهزة التنصّت والمراقبة المتطورة جداً على طول الحدود مع فلسطين المحتلّة، والتي كلّفت العدو ملايين الدولارات وكانت جزءاً لا يتجزّأ من ترسانته العسكرية، برزت معضلة أكثر تعقيداً تتمثّل بقيام الجيش الإسرائيلي بخرق كاميرات المراقبة في المنازل والمحال التجارية المتّصلة بالإنترنت على طول الحدود من الجانب اللبناني، ممّا مكّنه من مراقبة كافّة التحرّكات على الجانب اللبناني، المدني منها والعسكري، ناهيك عن إمكانية التنصّت على كلّ الهواتف الذكية، إضافة إلى وجود عدد كبير من العملاء، الذين تمّ تجنيدهم، وتم تجهيزهم بتقنيّات مراقبة ونقل معلومات متطورة جداً تمكّنت المقاومة والأجهزة الأمنية اللبنانية من كشف بعضها.

الجيش الإسرائيلي يعتمد على مراقبة المسيّرات بشكل أساسي، وقد قام بنشر فيديو ترويجي مؤخّراً لغرفة عمليات مباشرة في منزل آمن قريب من الحدود، حيث يقوم جنود احتياط، تمّ استدعاءهم منذ بدء المعارك على الجبهة اللبنانية، ليقوموا بمراقبة التصوير الدقيق للمسيّرات ونقل الإحداثيات لمراكز صواريخ موجّهة نشرت قريباً من الجبهة لهذا الغرض، إلّا أنّ التحكّم الكامل بالمعلومات والبيانات لم يحصل إلّا من خلال خرق الجانب الإسرائيلي لآلاف كاميرات المراقبة على الجانب اللبناني، خصوصاً تلك الكاميرات التي يتركها أصحابها قيد التشغيل لمراقبة منازلهم وأعمالهم التجارية، إلّا أنّها تحوّلت لأداة تجسس مهمّة جداً وخطيرة للغاية في ظلّ ما يحصل.

التهديد السيبراني

نحن لا نتحدث هنا عن قرصنة موقع ألكتروني وسرقة المعلومات عنه، بل نتكلّم عن آلاف كاميرات المراقبة التي تبثّ أدقّ التفاصيل بشكل مباشر وعلى مدار الساعة دون أن يكون لدى أصحابها أي دراية بأنّ كاميراتهم قد قُرصنت.

من الملفت للنّظر، أنّ تركيب كاميرات المراقبة يتمّ دون أيّ ترخيص أو تسجيل لدى أيّ سلطة من السلطات المختصّة في الجانب اللبناني، ممّا يجعل تحديد الخرق شبه مستحيل إلّا بعد تنفيذ الضربة، وهذا سببه الفوضى في استخدام هذه الكاميرات، ناهيك عن استخدام الهواتف الذكية مع بعض الجنوبيين الصامدين في القرى، والذين يهرعون للتصوير عند كلّ غارة أو عملية قصف داخل القرى دون مراعاة الجانب الأمني لهذا الموضوع أو التنبّه لفكرة نقل المعلومات الدقيقة للعدو من دون انتباه.

قبل أيام قليلة، قامت قوات الاحتلال بتوجيه ضربة لأحد المنازل في الجنوب اللبناني يعتقد أنّ عناصر لحزب الله كانوا يستخدمونه كمركز انطلاق لعملياتهم. المفارقة تجسّدت بعدد الشبان الذين حضروا إلى مكان الضربة وقاموا بتصوير عملية رفع الأنقاض باستخدام هواتفهم الذكية، وكانت المفاجأة أن يستخدم جيش العدو وإعلامه أفلاماً ومقاطع فيديو تمّ تصويرها بهذه الهواتف مباشرة خلال ثوان قليلة فقط من إرسالها، ناهيك عن تصوير مراسم تشييع الشهداء ونشرها على منصّات التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتس آب دون مراعاة للجانب الأمني السرّي لبعض الحضور، وهذا قد يقدّم للعدو مجموعة من البيانات غير المسبوقة على طبق من فضّة، في حين يقوم الجيش الإسرائيلي والإعلام العسكري لديه بمنع نشر أيّ معلومة من داخل الأراضي المحتلّة إلّا من خلاله، وقد ذكرت مصادر مطّلعة أنّ الاستخبارات الإسرائيلية أوقفت عدداً من الأشخاص قاموا بتصوير أماكن سقوط صواريخ المقاومة وبعض عمليات تنقّل الوحدات العسكرية ونشرها من دون موافقة السلطات المختصة.

وكان بيان وزعه حزب الله سابقاً ذكر أنّ إسرائيل "اخترقت مؤخّرا كاميرات مدنية متصلة بالإنترنت ومثبتة أمام المنازل والمتاجر والمؤسسات في قرى الخطوط الأمامية". وحثّ المواطنين على عدم شبك كاميراتهم بشبكة الإنترنت. وقامت الوحدة الإعلامية التابعة للحزب بنشر لقطات فيديو تظهر كيف تم استهداف سيارة تمرّ عبر بلدة حدودية بعد دقائق من التقاط كاميرا موضوعة خارج منزل وموجهة نحو الطريق للمشهد عينه.

وقال الإعلام الحربي لحزب الله إنّ إسرائيل "فقدت بشكل كبير قدرتها على التجسّس على مقاتلي المقاومة لمراقبة تحركاتهم واستهدافهم، بعد عمليات المقاومة باستهداف معظم كاميراتها ومعداتها على طول الحدود اللبنانية الفلسطينية".

في المقلب الآخر

في العام 2016، وفي عملية أمنية غير مسبوقة، نشرت قناة المنار التلفزيونية التابعة لحزب الله إنّ الحزب اخترق كاميرات أمنية في إسرائيل.  ووفقا للتقرير، فقد تمكّنت وحدة القرصنة "قادمون" التابعة للحزب من اقتحام الكاميرات الأمنية في مجموعة متنوّعة من المواقع في إسرائيل، بما في ذلك مجمع كيريا التابع لوزارة الدفاع في تل أبيب، وكانت هذه هي المرّة الأولى التي ينشر فيها الحزب تأكيداً لتقارير في وسائل الإعلام اللبنانية بأنّ وحداته تمكّنت من التسلّل إلى "مواقع حساسة، بما في ذلك صفحات الشبكات الاجتماعية في إسرائيل"، وفقا لما ذكرته صحيفة معاريف الإسرائيلية.

 وفقا لمعاريف، فتقرير الحزب الذي كتب باللغتين العربية والعبرية، بعنوان "تحطيم الوهم" مع رسالة واضحة آنذاك: "سنصل إليك، حتى لو كنت في مكاتبك، والخطوة التالية ستكون أكبر"، تضمّن لقطات من قراصنة من حزب الله يتصلون على ما يبدو بكاميرات المراقبة والأمن في مواقع مختلفة في جميع أنحاء إسرائيل. هذا وذكر تقرير المنار أنّ قراصنة الحزب استطاعوا اقتحام أكثر من 5,000 موقع إسرائيلي في عام 2015، بما في ذلك مواقع حسّاسة تتعلّق بقوات الأمن الإسرائيلية"، وهذا ما أعتبره خبراء إسرائيليون محاولة زعزعة شعور الإسرائيليين بالأمن الداخلي.

بدورها، ضجت الصحافة العبرية في نهاية العام 2022 بفضيحة من العيار الثقيل إذ تبيّن أنّ إيران اخترقت الكاميرات الإسرائيلية بعلم مسؤولي الدفاع في إسرائيل الذين لم يتصرفوا رغم سيطرة "طاقم موسى" وهي مجموعة القرصنة الإيرانية، على عشرات كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة لفترة طويلة، ونشرت مقاطع فيديو لمصنع أسلحة ومتفجرات في القدس، وفقاً لما ذكرته التقارير في حين صُدم الرأي العام الإسرائيلي بعلم المسؤولين الأمنيين بذلك لمدّة عام، وبأنّ مجموعة القراصنة الإيرانية استولت على عشرات الكاميرات الأمنية الإسرائيلية، لكنّ السلطات المعنية في إسرائيل لم تفعل شيئا لوقفها. وكانت المجموعة نشرت قبل ذلك بعام لقطات على قناتها على تلغرام لمحيط مصنع رافائيل الإسرائيلي للمقاولات الدفاعية في حيفا، بالإضافة إلى لقطات من كاميرات في جميع أنحاء القدس وتل أبيب، كما نشرت لقطات من كاميرا مراقبة تستخدمها على ما يبدو منظمة أمنية إسرائيلية كبرى لهجوم بتفجير في القدس أسفر عن مقتل شخصين، ، وقد ذكر التقرير أنّ المتسلّلين تمكّنوا من تحريك الكاميرات وإمالتها وتكبيرها أثناء سيطرتهم عليها لفترة طويلة.

الحذر والتحذير الإسرائيلي

مع بداية العدوان على غزّة، انصبّ تركيز شركات التكنولوجيا في إسرائيل على تفادي معضلة قرصنة كاميرات المراقبة المفتوحة، إذ تبيّن أنّ الكاميرات الأمنية سيئة التكوين مهدّدة بشكل سهل جداً أمام قراصنة الإنترنت، مما يعرّض أصحابها الذين يستخدمونها ومحيطهم لخطر كبير.

ومع ازدياد حجم العدوان على غزّة، بدأت الحرب السيبرانية بين الجانبين ومؤيديهم. وفي بحث بسيط لمؤسّسة تقنيات أمنية، تبيّن أنه ما لا يقلّ عن 165 كاميرا مكشوفة متّصلة بالإنترنت بنظام RTSP (بروتوكول البث في الوقت الفعلي) في إسرائيل و 29 كاميرا RTSP مكشوفة في فلسطين (الضفة الغربية)، هي مفتوحة بشكل دائم ومتاحة لأي شخص.

وحيث أنّ نظام RTSP مفيد لنقل البيانات في الوقت الفعلي، إلّا أنّه لا يوفر آليات تشفير أو حماية من تخمينات كلمة المرور، ممّا يؤدي إلى زيادة المخاطر في سيناريوهات الحرب الإلكترونية. حيث يمكن لأيّ متسلّل الوصول إليها، وهذا من شأنه أن يسمح لأيّ شخص بمشاهدة البثّ المباشر وتسجيل لقطات يمكن استخدامها للمراقبة أو الاستطلاع أو جمع المعلومات الحسّاسة، كما يمكن للكاميرات المكشوفة أن تغزو خصوصية الأشخاص إذا كانت موجودة في مناطق خاصّة أو حساسة، إذ قد يتمّ تسجيل المعلومات الشخصية أو الروتين اليومي أو المحادثات السرّية وإساءة استخدامها، كما يمكن استخدام هذه الكاميرات لجمع المعلومات الاستخباراتية أو التجسس أو الابتزاز، ولكن في حالة الحرب، ينصبّ اهتمام المتسلّلين إلى المراكز العسكرية والمرافق الحكومية، إذ توفر كاميرات RTSP الفرصة للمهاجمين لاختراق الشبكة التي تتصل بها الكاميرات. وبمجرّد دخولهم إلى الشبكة يمكنهم تحريك الكاميرات أفقيا لاختراق الأنظمة الأخرى أو سرقة البيانات.

على أساس كل ما ذكر، قامت السلطات الإسرائيلية بتحذير أصحاب الكاميرات المنزلية من عمليات القرصنة هذه، واتخاذ الاحتياطات اللازمة في ما يتعلّق بكاميرات الأمن المنزلي الخاصة بهم، وسط مخاوف من اختراقات متكرّرة. ويتزامن هذا التحذير مع الصراع المستمرّ ضد حماس في غزّة وتفاقم الصراع العسكري على الحدود الشمالية مع حزب الله في لبنان.