تدريجيّاً، استعادت الأجور في القطاع الخاص جزءاً ممّا سلبه الانهيار. من دون "منّة" الدولة بتأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات العمل، امتدّت "يد" آدم سميث "الخفيّة" إلى الاقتصاد اللبناني وشغلته. المؤسسات اهتمّت بمصلحتها الشخصية، كما نصح "أب الاقتصاد" الليبرالي الحديث، فازدادت مداخيل أفراد المجتمع "المخفيّة"، وعاد النموّ ليطلّ برأسه ولو "محمرّ الوجه". إلّا أنّ النّشوة التي تصاحب هذه الفورة، وتغنّي ممثلي العمل بنظريّة "خذ وطالب"، ستبقى موضعية، ولن تتمدّد مفاعيلها على مختلف الشرائح وعلى التقديمات الاجتماعية، التي تحوّلت إلى حجر زاوية الاستقرار في الدول الحديثة.

كان لافتاً الإعلان، مطلع هذا العام، عن توصّل الهيئات الاقتصادية والاتّحاد العمّالي العام إلى اتّفاقٍ يقضي برفع بدل النّقل في القطاع الخاص إلى 450 ألف ليرة. الخطوة التي ظلّت حتّى الأمس القريب مستبعدة من أرباب العمل، تساوي، من حيث الشكل، أجراء القطاع الخاص بأجراء القطاع العام، الذين نالوا هذه الزيادة في 18 نيسان 2023، من ضمن سلّة الحوافز التي أقرّها مجلس الوزراء. أمّا في المضمون فإنّ هذه الزيادة تمثّل ظاهرة غير مسبوقة في علم الاقتصاد. ذلك أنّ قيمة بدل النّقل الشهري الذي قد يصل إلى حدود 10 ملايين ليرة، تفوق قيمة الحدّ الأدنى للأجور المحدّد بـ 9 ملايين. وفي هذا تخبّط غير مسبوق على صعيد السياسات الاجتماعية، وتشوّه قلّ نظيره.

اتّفاقٍ يقضي برفع بدل النّقل في القطاع الخاص إلى 450 ألف ليرة

الأجور الفعلية مخفيّة

أرباب العمل يجادلون من موقعهم بأنّ "الأجور الفعلية التي تسدّد، تفوق بقيمتها تلك الاسمية بأضعاف مضاعفة". وهذا صحيح. فغالبية المؤسّسات الخاصّة تدفع من خارج الرواتب الخاضعة للحدّ الأدنى للأجور، حوافز دولارية تراوح بين 40 و100 في المئة من قيمة الراتب الأساسي، الذي كان معمولاً به قبل العام 2020. وهذه الآلية التي ساهمت بصمود الأجراء وساعدت على عودة الاستهلاك وتسريع التعافي في قطاعات اقتصادية متنوّعة ولدى شرائح اجتماعية مختلفة، لا تزال قاصرة وغير كافية. فالمساعدات لا تدخل في أساس الراتب، وتالياً لا تحتسب في تعويضات نهاية الخدمة. ولا تَدفع عنها المؤسسات، نسبة للضمان الاجتماعي، فلا تنعكس تحسّناً بالتقديمات الصحّية والاستشفائية. "وأنا لا أتعجّب من هذا الواقع، إذا كانت الدولة بصفتها ربّ العمل الأول، تلجأ إلى زيادة رواتب الموظفين من خلال المساعدات من خارج أساس الراتب، كي تتهرّب من واجباتها الاجتماعية تجاه أبنائها"، يقول رئيس الاتحاد العمال العام بشارة الأسمر. وعليه إذا كان ربُّ البيتِ بدفِ "التهرّب من التزاماته" ضارباً، فشيمـةٌ أهلِ البيتِ ستكون الرقص. إلّا أنّ هذا لا يعني من وجهة نظر الأسمر الخنوع، إنّما الاستمرار بالحوار مع القطاع الخاص من أجل رفع الحدّ الأدنى الرسمي للأجور إلى 50 مليون ليرة، أقلّه في القطاع الخاص. "ونحن كنّا قد قطعنا شوطاً كبيراً في إعادة تقييم الأجور وزيادة الحدّ الأدنى قبل اندلاع حرب غزّة (7 تشرين الأول 2023)"، يضيف الأسمر. "فأتت الحرب لتعيد الواقع الاقتصادي في لبنان إلى مربّع التعطيل الأول. فلا يمكن اليوم في ظلّ هذا الوضع الاقتصادي الضاغط، وهبوط أرقام أعمال مختلف القطاعات إلى ما بين 60 و70 في المئة، تحميل القطاع الخاص المزيد من الأعباء. ففضّلنا إعطاء الأمور المزيد من الوقت لئلّا يؤدّي الدفع إلى نتائج عكسية كإقفال المؤسسات وصرف المزيد من العمّال".


المشكلة في التصريح

رفع الحدّ للأجور إلى ما كان عليه في العام 2019، أو التصريح عن الزيادات بالدولار التي تعطى للأجراء من خارج الراتب الأساسي ليس موضوعاً ثانوياً يمكن أن يمرّ بسهولة، إذ هو "كفيل بإفلاس مؤسّسات كثيرة بالمعنى الحرفي للكلمة"، يقول الخبير الاقتصادي باسم البواب. فبحسب القانون اللبناني يستحقّ العامل تعويض نهاية خدمة محسوباً على أساس ضرب آخر راتب تقاضاه بمجموع السنوات. فيما تسديد نسبة من الراتب بقيمته الحقيقية لصندوقي التعويضات العائلية والمرض والأمومة سيكون مكلفاً جدّاً، خصوصاً في ظلّ تراجع النشاط الاقتصادي وضعف الاستهلاك وفقدان المؤسسات جزءاً كبيراً من مداخيلها. وبحسب القانون فإنّ أرباب العمل والعمّال ملزمون بتسديد 23.5 في المئة من الأجر للضمان الاجتماعي، والجزء الأكبر ملقى على عاتق أرباب العمل. والنسب موزعة على الشكل التالي: 8.5 في المئة لصندوق نهاية الخدمة يتحمّلها رب العمل. و6 في المئة لصندوق التعويضات العائلية يتحمّلها أيضاً ربّ العمل. و9 في المئة لصندوق المرض والأمومة، تنقسم بين 3 في المئة على الأجير و6 في المئة على ربّ العمل. وعليه فإنّ النّسبة التي سيتحمّلها أرباب العمل هي 20.5 في المئة. "وما دام الاستقرار معطّلاً، والنمو الاقتصادي مقيّداً والأعمال مشلولة والإصلاحات المالية والنقدية مغيّبة... فلا يمكن إلزام مؤسسات القطاع الخاص بالتصريح عن القيمة الحقيقية للمداخيل، وبمفعول رجعي في ما خصّ التعويضات"، بحسب البواب. "فما دفعته هذه المؤسسات خلال عشرات السنوات من نسب عن الرواتب تبخّرت ومن غير المستبعد في ظلّ هذه الأوضاع تبخّر ما ستدفعه حديثاً. هذا عدا أنّ المؤسسات التي كانت قادرة على تسديد الفروقات عن المبالغ غير المدفوعة عند خروج أحد الموظفين أو مجموعة منهم على التقاعد قبل العام 2019، لن تقدر في ظلّ هذه الظروف على تغطية الفرق في ما لو حسبت الأجور بقيمتها الحقيقية. كذلك لن تستطيع المؤسسات العاجزة الإقفال بسبب عدم تمكّنها من الإيفاء بالتزاماتها تجاه الضمان في حال صرف العمّال".

تعديل القوانين مستبعد

أحد الحلول المطروحة للخروج من هذه المعضلة هو احتساب التعويضات والبدلات عن الرواتب بقيمتها الحقيقية من دون مفعول رجعي، ولا سيما في ما يتعلّق بتعويضات نهاية الخدمة. فتدفع عن الأعوام ما قبل 2019 على أساس 1500 ليرة، وتأخذ نسب التبدّل بقيمة الرواتب بعد العام 2020. إلّا أنّ هذه الآلية تحتاج إلى تعديل القوانين. وهو أمر دونه عقبات قانونية وإدارية وتنظيمية عديدة. وعليه، فإنّ الحلّ العام يبقى بتحرّي سعر الصرف واستعادة النمو ورفع الناتج المحلي الإجمالي. أو ما يعني الحلّ الشامل.، وإلّا فإنّ كلّ الخطوات ستبقى معطّلة، أو مشوّهة في أحسن الأحوال.

بدل النّقل "يعيش بعز" مضاعفته، والأجور تشنق حالها بحبل عجز المؤسسات عن التصريح بقيمتها الحقيقية للجهات الضامنة. واقع إن كان يلبّي الحاجات الآنية للعمّال بالحدّ الأدنى، فسيدفعون ثمنه غالياً عند تقاعدهم وعجزهم عن الإنتاج. وهنا المشكلة خصوصاً إن طالت.