للمرّة الثانية على التّوالي يُجري المجلس المركزي لمصرف لبنان بقيادة الحاكم بالإنابة، النائب الأول سابقاً، وسيم منصوري، تغييرات على الموازنة نصف الشهرية للمركزي، التي دأب الحاكم السابق رياض سلامة على إصدارها بشكل دوري. فبعد شهر على انتهاء ولاية سلامة، عدّل مصرف لبنان في الأول من أيلول البيان الموجز عن الوضع المالي للنصف الثاني من شهر آب، لـ"كي يتلاءم مع المعايير والأعراف الدوليّة المعتمدة في المصارف المركزية، وذلك لمزيد من الشفافية"، بحسب ما كُتب في البيان آنذاك. ولعلّ أهم الاختلافات تمثّلت بإزالة البندين اللذين أضافهما سلامة في منتصف شباط 2023، من بيان الموجودات والمطلوبات بالدولار، وهما: بند الدين على الدولة بقيمة 16.5 مليار دولار. وبند "تعديل إعادة التقييم"، بقيمة 34.8 مليار دولار. وإزالة بند الأصول الأخرى. (البيان رقم 1 و2) 
الوضع ظلّ على هذه الحال إلى الأمس حين صدرت موازنة المركزي للنّصف الثاني من كانون الأول 2023، وتضمّنت في خانة الموجودات بنداً جديداً وُضع تحت اسم: "عمليات السوق المفتوحة المؤجّلة"، وبلغت قيمته حوالى 118971 مليار ليرة أو ما يقدّر بـ 7.9 مليار دولار على سعر صرف 15 ألف ليرة، الذي ما زال المركزي يبني على أساسه موازنته، رغم تحريره سعر الصّرف قبل أقلّ من شهر واحتسابها على أساس سعر السوق. كما تضمّنت الموازنة، تصفير بند: "موجودات ناتجة عن عمليات مقايضة على أدوات مالية"، بعدما كانت قيمة هذا البند في النّصف الاول من كانون الأول 18 مليار ليرة، أو ما يعني حوالى 1.2 مليون دولار فقط، على سعر صرف 15 ألف ليرة. واستبدل بند "تعديل إعادة التقييم (المادتان 75 و115 من قانون سوق المال)، بـ : فروقات تقييم الذهب والعملات الأجنبية – المادتين 75 و115 من قانون النقد والتسليف. وعاد البندان القديمان: الدين على الدولة على شكل التسليفات للقطاع العام بقيمة 16.6 مليار دولار. وبند تعديل إعادة التقييم على شكل فروقات تقييم الذهب بقيمة تقارب 43 مليار دولار.  

شرح الشّرح 
بحسب شرح بيان المركزي المضاف على جدول الموازنة، يتبيّن أنّه نُقل مجموع الأعباء المؤجّلة النّاتجة من عمليات السوق المفتوحة من بند الموجودات الأخرى المختلفة والموجودات الناتجة من عمليات مقايضة على أدوات مالية والبالغة 118972 ألف مليار ليرة، كما في 31 كانون الاول 2023 إلى البند الجديد، باسم عمليات السوق المفتوحة.  
وعلى غرار المصطلحات المحاسبية المعقّدة، يحتاج شرح المركزي إلى شرح. فهل التغييرات في الموازنة تعتبر أمراً حميداً أم خبيثاً؟ وهل تضفي التعديلات المزيد من الشفافية على محاسبة المركزي أم تصيبها بالمزيد من الغباشة؟ وأهمّ من هذا كله، ماذا يعني للمواطن اللبناني عموماً والمودع خصوصاً. وهل من انعكاس له على معيشتنا اليومية؟ 
"من حيث الشكل لا يتناسب مضمون "عمليات السوق المفتوحة" مع التسمية"، بحسب الاستاذ المحاضر في قوانين النّقد والمصارف المركزية، توفيق شمبور. "فالتسمية يجب أن تعني شراء شهادات الإيداع وسندات الخزينة وسندات القطاع الخاص وبيعها، وليس الانفاق على حاجات الدّولة بطريقة غير صحيحة". أمّا في المضمون فإنّ "العتب على طريقة الإدارة الجديدة بإصدار الموازنة وتعليلها بالشروحات، نابع من استمرار الخطأ، لا بل تجذيره أكثر"، يقول شمبور. فلا يمكن تعليل البنود التي تضيف ديناً كبيراً إلى الدولة، وهي: التسليفات للقطاع العام، وفروقات تقييم الذهب والعملات الأجنبية، بالاستناد إلى المادتين 85 و97 من قانون النّقد والتسليف كما حصل في الموازنة. "فالمادة 85 التي تقول بما معناه أنّ مصرف لبنان هو بنك الدولة، وعليه أن ينفق من حسابها. والمادة 97 التي تذكر أن المركزي عميل الدولة ويؤمّن نفقات تسويق سندات الدولة ودفع الفوائد، تشترطان توفّر الأموال"، بحسب شمبور. "في حين أنّ مصرف لبنان خاسر. وهذه الخسارة تحققّت من إنفاق غير منضبط لمصلحة الدولة وتثبيت سعر الصّرف، من خلال استجلاب الأموال من المصارف بطريقة مخطئة. وهذا هو الجرح النّازف الذي كان يجب وضع إصبع الموازنة عليه، لتبدأ من بعده الملاحقات القانونية".  

لا يتناسب مضمون "عمليات السوق المفتوحة مع التسمية 


الخسائر المخفية 
الطّامة الكبرى في موازنة المركزي بدأت عندما قرّر سلامة إخفاء الخسائر المحقّقة، والناتجة من الاكتتاب بشهادات إيداع بالدولار لمصلحة الدّولة عقب مؤتمر باريس 3 في بند أصول أخرى. واستمرّت مع إخفاء حساب تثبيت القطع الذي تنصّ عليه المادّة 75 من قانون النقد والتسليف بشكل واضح بحجّة عدم كشف Change in Net Position وتحفيز المضاربة على العملة. "وقد أُخذ القرار بمعزل عن موافقة المجلس المركزي وبالتنسيق وقتذاك مع كلّ من مدير الشؤون القانونية ومدير المحاسبة"، بحسب شمبور. "في حين يجب تضمين الموازنة هذه الخانة بوضوح".  

الإيجابيات 
اللافت في بيان المركزي الأخير كان إعلانه عن بدء العمل مع صندوق النّقد الدولي على مشروع Safeguards Assessment الذي يتضمّن في أحد محاوره إعادة النّظر في السياسة المحاسبية والتقارير والافصاحات المالية للتأكيد على اتّباع أفضل مبادئ الحوكمة والشفافية. ووقف العمل بآلية Seigniorage أو ما يعني إضافة أرباح مستقبلية. وذلك من أجل توضيح جميع الأعباء المؤجّلة تحت البند الجديد "عمليات السوق المفتوحة"، ممّا يجعل قراءة الخسائر المحققة وتلك المؤجّلة منسجمة مع المعايير والأعراف الدولية.   
على الرّغم من محاولات الإصلاح، فإنّ النّتائج الفعلية لن تبدأ بالظهور إلّا بعد توحيد سعر الصّرف وتقييم الموازنة على السّعر الحقيقي الذي هو سعر السوق وتنظيف موازنته من الخسائر بعد الاتّفاق على كيفية توزيعها في قانون الانتظام المالي. وإلى أن يتم تحقيق هذه الشروط ستظلّ الموازنات مشوّهة مهما يُوضع عليها من مساحيق التجميل.