لبنان "يفكّ" سعر الصّرف بعد ربع قرن من التقييد ونجم الدولار يسطع و"يُعمي" القدرة الشرائية

كما اختُتم العام 2023، بعدم الاتفاق على قانون "الكابيتال كونترول" وإعادته من الهيئة العامة إلى اللجان المشتركة، في آخر جلسة تشريعية، كان قد افتُتح العام على الخلاف نفسه. وبين أول العام وآخره جملة من الأحداث الاقتصادية البارزة، ظلّ الدولار نجمها السّاطع أبداً. حيث ارتفعت العملة الخضراء مقابل العملة الوطنية من 38 ألف ليرة في بداية العام إلى 143 ألفا قبل نهاية الفصل الأوّل وتحديداً في 21 آذار، ليعود سعر الصرف ويستقرّ في الفصول الثلاثة المتبقية اصطناعياً على 90 ألف ليرة. وفي ما يلي جردة بأبرز الأحداث الاقتصادية التي شهدها العام 2023 في الفصل الاول الممتد من 1 كانون الثاني ولغاية 31 آذار.

كانون الثاني، نهاية "مشوار" الدّعم

لم يشكّل انتهاء النقاش في اللجان النيابية المشتركة حول قانون "الكابيتال كونترول" مطلع العام مبرّراً لإقراره.  حيث أدرج هذا القانون مرّتين على جدول اعمال الهيئة العامّة لمجلس النواب خلال العام 2023، وأسقط بحجة ضرورة إقراره من ضمن سلّة واحدة للإصلاحات تتضمّن بقيّة القوانين الخلافية. وفي مقدّمتها الاتفاق على كيفية توزيع الخسائر، أي كيفية توزيع الفجوة في مصرف لبنان المقدّرة بـ أكثر من 72 مليار دولار، بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين.

في مقابل الاختلاف على الكابيتال كونترول تمّ الاتفاق على إلغاء آخر أشكال الدعم السلعي، حيث رفع الدعم عن حليب الرضع والأطفال بشكل كلّي. وعمد مصرف لبنان في هذا الشهر إلى رفع سعر صرف السحوبات من حسابات الدولار بالليرة بحسب التعميمين 151 و158، من 8000 ليرة إلى 15 ألف ليرة وبحدّ أقصى قيمته 1600 دولار شهريا بالنسبة للتعميم 151. كما سجّل في هذا الشهر رفع سعر الدولار على منصّة صيرفة للمرّة الرابعة، بحيث أصبح 38 ألف ليرة لبنانية مقابل الدولار.

شباط، تخفيض سعر الصّرف وفكّ التقييد

بعد 25 عاماً على تقييد سعر الصّرف الذي بدأ في العام 2008، خفّض لبنان بقرار من مصرفه المركزي سعر صرف عملته عشرة أضعاف. فشهد مطلع الشهر الثاني من العام تخفيض سعر صرف العملة الوطنية الرسمي من 1500 ليرة مقابل الدولار إلى 15 ألف ليرة.

وقد ترافق هذا القرار مع موافقة وزارة الاقتصاد والتجارة على تسعير المواد الغذائية بالدولار الأميركي بخطوة أريد منها إلغاء فوضى التسعير، وإلغاء هوامش الربح غير المنطقية الناتجة عن التبدّلات الكبيرة والسريعة في سعر الصرف. 

وكان لافتاً هذا الشهر عودة المصارف إلى الإضراب العام للمرة الثالثة منذ بدء الانهيار. حيث أعلنت ابتداء من 6 شباط 2023 إضراباً مفتوحا على خلفية الاستدعاءات القضائية التي طالت رؤساء وأعضاء مجالس إدارات بعض المصارف، والمطالبة برفع السرّية المصرفية بمفعول رجعي، والحكم لصالح أحد المودعين بتقاضي وديعته نقداً وليس بواسطة شيك مصرفي.

بعد 25 عاماً على تقييد سعر الصّرف الذي بدأ في العام 2008، خفّض لبنان بقرار من مصرفه المركزي سعر صرف عملته عشرة أضعاف

آذار، شهر الدولار

"آذار الغدّار"، بحسب المعتقدات الشعبية، لكونه "يُخبئ سبع ثلجات كبار عدا عن الصغار"، كان الأكثر حماوة بين أشهر السنة. ففي الواحد والعشرين من هذا الشهر كسر سعر الصرف الرقم القياسي متجاوزاً عتبة 140 ألف ليرة للدولار الواحد. وقد أعطى التدخّل الخجول لمصرف لبنان على منصة صيرفة الذي لم يتجاوز في بداية آذار 50 مليون دولار في اليوم الواحد ولأيّام معدودة، دفعا قوياً لارتفاع سعر الصرف. عزّزه زيادة الإنفاق العام وتراجع إيرادات الدّولة وتدهور الوضع الاقتصادي، والضغوط القضائية على المصارف و"احمرار" العين قضائياً من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فما كان من المركزي إلّا "تشليع سقوف" تبديل الليرات بدولارات بحسب سعر الصّرف على منصّة صيرفة (90 آلف ليرة) وعدم وضع أيّ حدود من أجل خفض سعر الصّرف. وبالفعل دفع هذا الإجراء إلى تراجع الدولار سريعاً إلى 110 آلاف ليرة في اليوم التالي 22 آذار. ولكنّه كرس في المقابل تشوّهات كثيرة، أهمّها: خفض سعر صيرفة إلى رقم قياسي، وبالتالي فشل مهمّتها الأساسية التي وضعت من أجلها وهي اللحاق بسعر الصّرف وتخفيضه. فأصبحت تهرول وراءه من دون أن تمسكه. وهكذا ارتفعت صيرفة بنسبة 50 في المئة منذ بداية العام، الأمر الذي بدّد الوفر الذي حققه المستهلكون من تراجع سعر الصرف في السوق الموازية من 142 ألفاً إلى 110 آلاف ليرة. إذ دفعوا الفرق زيادة في أسعار الاتصالات والكهرباء. فنابت صيرفة، التي اعتمدت كسعر مرجعي للكهرباء والاتصالات والعديد من الخدمات... عن الدولار الأسود، واستمرّ نهب المواطنين في الحالتين. وأدّى السماح للصرّافين من الفئة (أ) بإجراء عمليات صيرفة إلى جانب المصارف. أي شراء الليرات من الجمهور وبيعهم الدولار على سعر 90 ألفاً بشكل غامض وغير مفهوم، إلى المزيد من الضبابية في سياسة مصرف لبنان.

وكان آذار قد افتُتح بموافقة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على اقتراح وزارة المالية رفع الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة بالدولار من 15 ألف ليرة إلى 45 ألف ليرة. وقد شكّل هذا التدبير مفاجأة بالنسبة للمستوردين والمواطنين ذلك لتمريره من دون أيّ شوشرة وإحاطته بالكتمان من أجل عدم تحفيز المستوردين على استيراد كميات كبيرة على سعر منخفض وتحقيق الأرباح ببيعها مضافاً اليها السعر الجديد.

كما كان شهر آذار حافلاً بدخول الدولة اللبنانية على خطّ ملاحقة حاكم مصرفها المركزي. إذ تقدّمت الدولة اللبنانية، ممثّلة بهيئة القضايا في وزارة العدل، بالادّعاء على الحاكم رياض سلامة، وشقيقه رجا، ومساعدته ماريان الحويك، وكلّ من يظهره التحقيق شريكاً، بجرائم تتعلّق بالفساد. وذلك بالتزامن مع تحقيقات النيابة العامة الاستئنافية مع حاكم مصرف لبنان بمشاركة أوروبية.

شهر آذار الذي كان مثقلاً بالمشاكل والهموم أبى أن يفارق لبنان من دون هزّة عصا من صندوق النقد الدولي. ففي ختام "بعثة مشاورات المادّة الرابعة لعام 2023" التي امتدّت من 15 إلى 23 آذار، أكّد خبراء الصندوق أنّ "لبنان يقف عند مفترق طرق خطير، وبدون إصلاحات سريعة سيغرق في أزمة لا نهاية لها". ولعلّ أسوأ ما تضمّنه التقرير كانت إشارته إلى لامبالاة المسؤولين. حيث أورد أنّه "رغم فداحة الأوضاع، التي تستدعي تحرّكاً فورياً وحاسماً، فقد ظلّ التقدّم المحرز محدوداً نحو تنفيذ حزمة شاملة من الإصلاحات الاقتصادية التي نصّ عليها الاتّفاق على مستوى الموظّفين (وقع في نيسان 2022). وتتسبب هذه الحالة من "اللافعل" بحسب الصندوق، "في الإضرار بشريحة السكّان منخفضة الدخل إلى متوسّطة الدخل أكثر من سواها وتؤدّي إلى إضعاف إمكانات لبنان الاقتصادية على المدى الطويل". وجدّد صندوق النقد مطالبته بـ "ضرورة اتّخاذ إجراءات سريعة وحاسمة للتصدّي للضعف المؤسسي والهيكلي طويل الأمد لتحقيق الاستقرار للاقتصاد وتمهيد الطريق أمام تعاف قوي ومستدام". وهذا ما لم يحصل لغاية نهاية العام الحالي.

 لا يمكن ذكر آذار، من دون استذكار إطلالة شبه أزمة مالية عالمية برأسها من شباك انهيار مصارف تجارية أميركية. ففي هذا الشهر انهار كلّ من مصرف "سيلفر غايت" و"سيليكون فالي" و"سيغنتشر" إثر انكشافها على أسهم شركات التكنولوجيا تحت ضغط استمرار الاتحاد الفدرالي برفع أسعار الفائدة، وعدم تمكّنها من تلبية طلبات السحب الكبيرة بسبب فقدانها للسيولة. ولعلّ الأخطر كان انتقال الاضطرابات التي تعرّضت لها البنوك الأميركية إلى الضفة المقابلة للأطلسي، وتعرّض بنك "كريدي سويس"، أحد أكبر البنوك العالمية للانهيار. وكادت الأزمة أن تتسبب بأزمة مصرفية عالمية نظراً لحجم البنك وتشعّب علاقاته لولا تدخّل السلطات سريعاً ودمجه مع بنك "يو بي أس"، بأكبر عملية استحواذ مصرفية منذ العام 2008.