قلّما نجد بلداً على هذه المعمورة يحفل بالتناقضات على غرار لبنان. فمنذ الانهيار العظيم أواخر العام 2019 ولغاية اليوم لم يتّفق أصحاب المصالح على قرار مشترك واحد. الاختلاف الذي يُعتبر نعمة في المجتمعات الديمقراطية الصحّية، تحوّل إلى نقمة في "الجسد المريض". وليس بعيداً عن الخلافات العامودية بين أرباب العمل والعمّال التي تشلّ البلد، برز حديثاً شقاق بين المدارس الخاصة ومعلّميها، يبدو أنّ لحمه سيكون صعبا إن لم يكن مستحيلاً.

 لم تتأخّر المدارس الكاثوليكية في لبنان عن إعلان الاضراب العام المفتوح على خلفية إقرار البرلمان تعديلات على بعض أحكام القوانين التي تتعلّق بتنظيم الهيئة التعليمية في المدارس الخاصّة وتنظيم الموازنة المدرسية. وقد وصفت اللجنة الأسقفية للمدارس في بيان التشريع الجديد في بيان بأنّه "اعتباطي ومتهوّر". معتبرة أنّه "غير قابل للتطبيق. وغير مرتكز على أيّ أسس تشريعية وأسباب موجبة. ولا يأخذ بالحسبان العواقب التي ستترتّب على العائلة التربوية مجتمعة وعلى مستقبل أولاده".

أسباب اعتراض المدارس الخاصة

ردّة الفعل القاسية للمدارس الكاثوليكية والتي ستُستتبع بحسب معلومات خاصة بتحرّكات مماثلة في بقية المدارس الخاصّة، تعود إلى التعديلات الاربعة التّالية:

- رفع مساهمة المدرسة في صندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليمية من 6 إلى 8 في المئة، من الرواتب والمساعدات التي تدفعها وبحسب عملة الدّفع. أي بالليرة، اللولار والدولار النقدي.

- تشمل نسبة 8 في المئة أيضاً الأساتذة غير الدّاخلين في الملاك ابتداءً من 1 تشرين الأول 2023. ولا تقتصر بالتّالي على الأساتذة المثبتين. ما يعني إلغاء فكرة التعاقد لتخفيف الأعباء التي كانت تعتمدها المدارس.

- إلزام المدارس الخاصّة بالحصول على براءة ذمّة مالية سنوياً من صندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليمية، تثبت أنّ المدرسة سدّدت ما عليها من محسومات ومساهمات عن المتعاقدين.

- إخضاع المؤسّسات التربوية الخاصّة التي كانت معفيّة من دفع المحسومات والمساهمة إلى القانون المعدل.

الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية قالت إنّ "ما جرى تمريره في اللحظة الأخيرة يختلف عن القانون الاساسي المقترح. إذ أضيفت أمور لم تتمّ مناقشتها مع اتّحاد المؤسسات التربوية ومع الأمانة العامّة. وقد سجّلت اعتراضها على مبدأ دفع المساهمات بالدولار كون الصندوق مؤسسة خاصّة ذات منفعة عامّة لا يحقّ له تقاضي عملات أجنبية. وأنّ التعويضات تعطى على أساس الرّاتب القانوني. وأنّ المتعاقدين لا يستفيدون من التعويضات كي يتمّ إلزامهم بدفع الاشتراكات. هذا عدا عن أنّ النّسب الموضوعة لم تأت بناءً على دراسات اكتوارية. وهي تشرّع التّعامل بالعملات الأجنبية. وتخلق المزيد من الضياع في إعداد الموازنات (نصّ البيان)ً. 

لم تتأخّر المدارس الكاثوليكية في لبنان عن إعلان الاضراب العام المفتوح على خلفية إقرار البرلمان تعديلات على بعض أحكام القوانين

وليدة الحاجة

التّعديلات التي تمّ إدخالها على القانون رقم 515 الصادر في العام 1996، والمرسوم الاشتراعي رقم 47 تاريخ 1983 لم تأت ترفاً، إنّما من "صلب معاناة وآلام المعلّمين المتقاعدين"، بحسب نقيب المعلّمين في المدارس الخاصة نعمه محفوض. "وليس هناك من بديل عن هذه التعديلات لصون كرامة المعلّمين الذين أفنوا حياتهم بين جدران المدارس بعد تقاعدهم. فما أقرّه البرلمان من مساعدة مالية بقيمة 650 مليار ليرة لصندوق التعويضات، (بالتوازي مع إقرار التعديلات المذكورة سابقا)، يكفي لمدة عام ليس أكثر. والمطلوب كان إيجاد آلية تسمح لصندوق التعويضات بتغذية نفسه بنفسه، وتأمين المصادر المالية الضرورية فكانت هذه التعديلات أحسن الممكن". وعليه جرى رفع مساهمة المعلّم من 6 إلى 8 في المئة شهرياً. وألزم المتعاقد بالسّاعة على دفع النّسبة نفسها بعدما كان معفياً منها. وفرض على المدرسة دفع 8 في المئة عن كلّ معلّم على الرواتب التي تدفعها بالدولار، و8 في المئة عن الرواتب بالليرة اللبنانية. "آخذين بعين الاعتبار أيضاً مصاريف الصندوق من كهرباء وإيجارات وانترنيت واتصالات وأوراق ومحابر وقرطاسية، وكلّها نفقات تدفع بالدولار النقدي"، بحسب محفوض. "أمّا بخصوص براءة الذمّة فكان الهدف منها وضع حدّ للمدارس التي تقتطع المساهمة من المعلّمين، ولا تسدّدها لصندوق التعويضات. وهي لا تستهدف المدارس الكاثوليكية التي تلزم بنسبة 99.9 في المئة بتسديد المساهمات للصندوق".

"الموت جوعاً"

بالأرقام هناك نحو 5000 معلّم متقاعد يتقاضى الواحد منهم شهرياً بين 1.5 مليون ليرة (16.7 دولار)، و3 ملايين ليرة (33.5 دولار) بالحدّ الأقصى، يدفعون منها مليون ليرة شهريا للضمان الاجتماعي. وبحسب محفوض فإنّ هؤلاء المعلّمين "ميّتين من الجوع" حرفياً لا مجازياً. وقد أصبحوا في سنّ لا تخوّلهم أو تسمح لهم بالعمل بأيّ وظيفة أو مهنة. وبالتالي فإنّ تحسين التعويضات ورفعها بين 5 و6 مرّات ليس ضرورياً للمتقاعدين الحاليين فحسب، إنّما هو أساسي أيضاً لعدم ترك المعلّمين المدارس الخاصة، وضمان قدرتها على جذب الكفاءات. فلا أحد يمكن أن يعمل بجدّ ونشاط إذا كان متأكداً أنّ تقاعده لن يكفيه ثمناً للخبز وحده من دون أن نقول الأدوية والاستشفاء. وتساءل محفوض "إن لم نقم بمثل هذا الإجراء فكيف يمكن زيادة واردات الصندوق؟ وكيف يمكن إلزام المدارس المتهرّبة، بالدفع. خصوصاً أنّه لغاية اليوم هناك ما بين 200 إلى 300 مدرسة لم تدفع الدرجات الست التي اتفق عليها". ولفت إلى أنّه "منذ شهر ونحن نلحّ لعقد اجتماع مع الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية لدرس وضع صندوق التعويضات وصندوق تقاعد المعلّمين، من دون أن نلقى أيّ تجاوب، مع العلم أنّ وضع الصندوق غير خاف على أحد". وبحسب محفوض فإنّ المدارس الكاثوليكية شاركت في اجتماع لجنة التربية النيابية عندما أقرّ مشروع القانون المتعلّق بأفراد الهيئة التعليمية بالمدارس الخاصة وبالموازنة المدرسية وأحيل إلى اللجان المشتركة لإقراره وتحويله إلى الهيئة العامة".

بحسب المنطق الذي يحاجج به المعلمون فإنّ "الأسباب والموجبات التي سمحت للمدارس بتقاضي جزء من القسط بالدولار ودفع الجزء الأكبر من رواتب المعلمين بالدولار أيضاً، هي نفسها التي توجب اليوم دفع المستحقّات للصندوق بالدولار من أجل إنصاف المتقاعدين. وحماية الذين سيتقاعدون بعد أشهر قليلة. "فهل تتحمّل المدارس الخاصة أقلّه من الناحية لمعنوية أن تكون السبب في تدهور ظروف المعلّمين المتقاعدين المعيشية، من خلال عدم الحفاظ على ديمومة صندوق تعويضاتهم وصندوق تقاعدهم؟"، يسأل محفوض. مطالباً المدارس الخاصة بالمبادرة إلى الحوار، كيلا يسجّل التاريخ أنّ المدارس تخلّت عن متقاعديها في هذه الظروف المادية الصعبة جداً، ووقفت في وجه تحسين ظروفهم المعيشية، كي تبقى الثقة بمهنة التعليم ورسالتها".

لعلّ أكثر ما يفتقده لبنان في هذه الظروف القاهرة هما أمرين، الأول معنوي ويتعلّق بغياب ثقافة التكافل الاجتماعي والتضامن. وهي محورية في بناء العقد الاجتماعي في أيّ دولة أو مجتمع. والثاني مادّي بحت ويتعلّق بضرورة الانتهاء من تعدّد أسعار الصّرف وتوحيدها. وطالما غاب هذان العنصران فإنّ المشاكل بين أرباب العمل بمن فيهم الدولة، ستبقّى مستمرّة وتدور في الحلقة المفرغة.