بين حجمي المشاركة والمقاطعة، أعطت انتخابات المجالس المحلّية في العراق، مؤشّراً آخر على عمق الخلافات بين القوى السياسية في هذا البلد. وعندما تكون السمة العامّة هي اللامبالاة من قبل شريحة واسعة من النّاس، فإنّ ذلك عائد بدرجة أساسية إلى الشعور بالإحباط من إمكان أن تكون الانتخابات محطّة نحو تحسين حياة العراقيين، أكثر منها مجرّد حدث يعزّز موقع النّخبة الحاكمة منذ 2003.

وأتاحت مقاطعة التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر والقوى الإصلاحية، لأحزاب "الإطار التنسيقي" المقرّبة من إيران، أن تحكم قبضتها على مجالس المحافظات بعدما هيمنت على مجلس النواب العام الماضي، بفعل استقالة الكتلة الصدرية. وغدت الانتخابات وسط المقاطعة الواسعة وكأنّها تنافس بين أحزاب "الإطار التنسيقي" نفسه.

في المبدأ، لا تقلّ انتخابات المجالس المحلّية أهمّية عن انتخابات البرلمان المركزي، كون المجالس تتمتّع بصلاحية تعيين المحافظين والإشراف على الإدارة المحلّيّة والكثير من الخدمات الحياتية، من صحية وتعليمية وكهرباء. والأهمّ من هذا كلّه، هي الموازنات التي ترصد لهذه المجالس. ومنذ عقد لم تجرِ انتخابات المجالس بسبب الانشغال بالحرب ضدّ تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش).

وعكست الانتخابات الانقسامات الحادّة بين التيّار الصدري وأحزاب "الإطار التنسيقي"، وبينها الأجنحة السياسية للحشد الشعبي. قاطع "الصدريون" الانتخابات المحلّية، انسجاماً مع موقفهم الرافض للانضمام إلى "التنسيقيين" منذ انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان عام 2022، علماً بأنّها كانت الكتلة الأكبر فيه (73 نائباً).

رفض الصدر أن يشارك في حكومة ائتلافية مع "الإطار التنسيقي"، وأصرّ على تشكيل حكومة على أسس سياسية وليس على أسس توافقية، الأمر الذي رفضه "التنسيقيون"، الذين عطّلوا عمل البرلمان وتشكيل الحكومة لمدّة أشهر، فما كان من الصدر إلّا أن أخرج كتلته من مجلس النواب، فتسنى عندها لـ"الإطار التنسيقي" أن يملأ الفراغ في المقاعد الشاغرة، ومن ثم أعلن ترشيحه لمحمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة، بعدما كادت البلاد تغرق في حرب أهلية جديدة.  

ضمن هذه الأجواء، أجريت انتخابات المجالس المحلّية، التي أريد منها تعزيز الإمساك بمفاصل السلطة في المحافظات، وذلك تمهيداً للانتخابات التشريعية التي ستجرى في 2025. وقد أدخل البرلمان تعديلاً على قانون الانتخاب يصبّ في مصلحة التكتّلات الكبرى ويحرم الأحزاب الصغيرة والشخصيات المستقلّة من إمكانات الفوز. وعمد إلى تخصيص كوتا للأقلّيات الطائفية من مسيحيين وأيزيديين وصابئة. أمّا منطقة الحكم الذاتي في كردستان، فإنّ انتخابات المجالس المحلّية لم تشملها، لأنّ لهذه المنطقة انتخاباتها الخاصّة، التي تخوض فيها الأحزاب الكردية تنافساً في ما بينها. وعليه شملت انتخابات الأحد 15 محافظة عراقية. أمّا كركوك المختلطة، فقد تقدّم مرشحو الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في هذه المحافظة.

ومن الملفت أنّه على رغم قرار المحكمة العليا الاتحادية الذي أزاح زعيم حزب "تقدّم" محمد الحلبوسي من رئاسة البرلمان المخصّص للسنّة ضمن التقاسم الطائفي للسلطة الذي أقر في مرحلة الاحتلال الأميركي، فإنّ الأخير خاض انتخابات المجالس المحلّية على لائحة واحدة مع رجل الأعمال خميس خنجر الذي يتزعم تحالف "السيادة". وأحرز هذا التحالف المركز الأول في محافظة الأنبار.

ومعلوم أنّ العلاقة بين الحلبوسي و"الإطار التنسيقي" تمرّ بمرحلة من الشكوك وعدم اليقين منذ إقدام المحكمة فجأة على اتخاذ قرار بإقالة رئيس المجلس من منصبه بسبب ما قالت إنّه دعوى مقامة ضدّه من أحد النواب. ولذا تتخذ انتخابات مجالس المحافظات بُعد التحدّي بين حزب "تقدم" و"الإطار التنسيقي". ولم ينجح مجلس النواب حتّى الآن في اختيار خلف للحلبوسي.

وفي ضوء مقاطعة الصدريين والإصلاحيين الذين قادوا انتفاضة الأول من تشرين الأول 2019، ممّا انعكس تدنياً في نسبة المشاركة (41 في المئة كانت 55 في المئة عام 2013)، قد تبرز انتقادات تقلل من شرعية الانتخابات.

لا يمكن عزل انتخابات المجالس المحلّية عن أجواء التوتّر التي تلفّ الشرق الأوسط نتيجة الحرب الإسرائيلية في غزة

ومنذ القمع الذي تعرّض له "التشرينيون" على أيدي السلطة والأحزاب الموالية لها، أصيب الشباب العراقي بخيبة أفقدته الأمل بإمكان حصول إصلاحات من شأنها القضاء على أوكار الفساد والعبور نحو دولة تكون فيها المواطنة هي الأساس وليس الزبائنية وشراء الولاءات وفق ما هو حاصل اليوم. و"التشرينيون" نسبة إلى الاحتجاجات والتظاهرات العراقية في أول تشرين الأول عام 2019 التي شهدتها بغداد وبقية محافظات جنوب العراق احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية للبلد، وانتشار الفساد المالي الإداري والبطالة.

 في ظلّ هذه المناخات أجريت انتخابات مجالس المحافظات. وكان لافتاً أنّ المرجع الشيعي الأعلى آية الله العظمى علي السيستاني، لم يصدر أيّ موقف بالدّعوة إلى الإقبال على الانتخابات أو بالمقاطعة، بخلاف ما كان يجري عند محطات انتخابية سابقة. إنّ وقوف المرجعيّة الدينية على الحياد يمكن أن ينظر إليه على أنّه تعبير ينمّ عن الاستياء من حال الانقسامات الحادّة ضمن "البيت الشيعي".

ولا يمكن عزل انتخابات المجالس المحلّية عن أجواء التوتّر التي تلفّ الشرق الأوسط نتيجة الحرب الإسرائيلية في غزة. والعراق ليس بعيداً عن أجواء الحرب مع قيام هجمات بالصواريخ والمسيّرات شنتها جماعات عراقية يعتقد أنّها موالية لإيران ضدّ المصالح الأميركية في العراق وسوريا في الأسابيع الأخيرة، وذلك من قبيل التضامن مع غزة.

هذه الهجمات أعادت التذكير بأنّ العراق لا يزال مكاناً للتنافس الأميركي-الإيراني، وبأنّه ليس بمنأى عن العواصف الإقليمية، على رغم أنّ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، سعى إلى اتخاذ مواقف متوازنة بين واشنطن وطهران، وحاول قبل حرب غزة أن يضطلع العراق بدور المسهّل لخفض التصعيد بين الجانبين.

وسط احتدام اللحظة الإقليمية، تصير الحسابات على النّحو الآتي: إيران هي الفائزة...وأميركا هي المهزومة في انتخابات مجالس المحافظات العراقية!!!

إنّ فوز القوى المتحالفة مع إيران في انتخابات مجالس المحافظات، قد يشكّل سنداً للفريق المناهض للنفوذ الأميركي في العراق كي يؤكّد على صوابيّة خياره.

بيد أنّ المقاطعة الواسعة للانتخابات، يمكن أن تدرج أيضاً في وجود خيار ثالث، يقدّم أولوية العراق، على الصراعات بين أميركا وإيران.