بعضهم يُعيب على "القوات اللبنانية" ورئيسها سمير جعجع "الطوباوية الزائدة" في السياسة والتمسّك بمنطق دولة القانون، فيما البعض الآخر يعتبر أنّ حسابات الأخير كما رهاناته دائماً خاطئة والسقوف والمواقف التي يرفعها لا تعدو أكثر من مناورات. إلّا أنّ جعجع منذ خروجه من المعتقل عام 2005 يصرّ على أنّه يسخّر أيّ "برغماتية" في خدمة "المبدئية" التي لا تظهر ثمارها في المدى القريب إنّما الطويل. فهو يعزو التصاعد الجماهيري لـ"القوات" - والذي ترجم بوضوح عبر حصد 5 نواب عام 2005، 8 نواب عام 2009، 15 نائباً عام 2018 و19 نائباً عام 2022 - إلى هذه المبدئية المتجسّدة على أرض الواقع بأداء نوابه ووزرائه والمتكاملة مع خياراته السياسية.

من باب "المبدئية" تدرّج "القوات" البرغماتية التي قاربت بها استحقاق قيادة الجيش. فهي أخذت بصدرها المبادرة إلى طلب رفع سن التقاعد للتمديد للعماد جوزاف عون وتأمين النصاب في الجلسة التشريعية رغم اعتبارها أنّ مجلس النواب تحوّل إلى هيئة ناخبة في ظلّ الشغور الرئاسي.

استفادت من صلابة موقف بكركي بما يتعلّق بالتمديد لعون واقتنصت المناخ الدولي الضاغط

لم يثنها عن ذلك التهويل عليها بأنّ الرئيس نبيه بري استدرجها إلى التشريع ولا ادّعاء أنّها انقلبت على مواقفها، فبنظرها لا شيء يعلو على المصلحة الوطنية العليا المتمثّلة بالمحافظة على استقرار المؤسسة العسكرية في هذا الظرف العصيب الذي يعيشه لبنان على وقع الحرب المشتعلة جنوباً من جهة والمحافظة من جهة أخرى على إحدى ما تبقى من صلاحيات لرئيس الجمهورية وهو تزكية اسم قائد الجيش.

استفادت من صلابة موقف بكركي بما يتعلّق بالتمديد لعون واقتنصت المناخ الدولي الضاغط للحفاظ على الاستقرار في المؤسسة العسكرية في هذا الظرف الصعب، فبادرت الى تقديم اقتراح قانون معجّل مكرّر في الزخم الصحيح. الأهم من كلّ ذلك وأبعد من التمديد، نجحت "القوات اللبنانية" بتكريس مبدأ "التواصل البنّاء" على حساب "فولكلور" الحوار أو "زيارات الصورة" بعدما عاب عليها كثر عدم التجاوب مع دعوة الرئيس برّي لحوار الأيام السبعة ووصدها أبواب معراب بوجه جولة العونيين وورقة "الأولويات الرئاسية".

فـ"القوات" رفضت دعوة بري من باب التجارب المريرة، إذ لم يغب عن بالها تجربة "طاولة حوار" العام 2006 - وكان نجمها فبْركة الكتل لتشريع مشاركة البعض كالنائب طلال إرسلان يومها - التي انتهت بتفرّد أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله بإدخال لبنان في "حرب تموز" دون أيّ حوار مع أحد ونسف وعده بالصيف الهادئ أو الحوار. كذلك استحضرت جولات الحوار التي رعاها الرئيس ميشال سليمان وأفضت إلى ولادة "إعلان بعبدا" عام 2012 الذي ما لبث أن نسفه "الحزب" على لسان رئيس كتلته النائب محمد رعد. كما رفضت الدخول بـلعبة "المحاباة" كالآخرين الذين استقبلوا العونيين واستلموا ورقة الأولويات الرئاسية، فقط كي لا يسجّل عليهم أنهم يرفضون الحوار مع الآخر. فيما هم يدركون أنّها أتت بغية كسر العزلة التي عانى منها رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل عشية انتهاء عهد الرئيس ميشال عون.

إلّا أنّ "القوات" التي نجحت مع قوى المعارضة بالضغط لسحب التأييد الفرنسي لحوار بري - فغاب لاحقاً هذا المصطلح عن جولات الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان – أثبتت أنّ "التواصل البنّاء" وفق أهداف واضحة ومضبوطة بعيداً عن جداول الأعمال الفضفاضة ولوائح المشاركين الموسّعة أجدى من "معزوفة" الحوار. عدم السير بنص اقتراحها المعجّل المكرّر حرفياً وعدم تجاوب برّي مع رغبتها بأن يكون هذا الاقتراح بنداً وحيداً على جدول أعمال الجلسة التشريعية لم يكبّلاها، لا بل شغّلت محركات التواصل على أكثر من محور: تنسيق مع المعارضة والمستقلّين و"الاشتراكي" رغم عدم التوصّل الى إجماع في دعم اقتراحها، المبادرة نحو بري وميقاتي والمساهمة بتقليص عدد الاقتراحات المتعلّقة بالتمديد للأسلاك العسكرية إلى واحد والسهر على إبصاره النور.

في الخلاصة، تعتبر "القوات" أنّ "التواصل البنّاء" الذي نجح في استحقاق قيادة الجيش – لا الحوار الممجوج أو الدعوات للإجماع أو ربط النزاع – هو الذي يصلح أن يكون منطلقاً لقطع الطريق على الفراغ وتعبيدها نحو قصر بعبدا لا التشبّث بترشيح سليمان فرنجية "حتّى آخر نفس" لأن زمن فراغ 2014 والمشهدية السياسية يومها وموازين القوى والظروف قد تبدّلت.