خلال فعاليات المؤتمر السنوي لجمعية عِلم الأعصاب في واشنطن، قبل أيام، أشارت أبحاث أوّلية إلى تغييرٍ أحدثته الجائحة في أدمغة المراهقين

لقد تلاشت جائحة كورونا إلى حدّ بعيد. لكنّ آثارها، المباشرة وغير المباشرة، على البشر لم تَغِب للحظة. والأرجح أنّها ستُرافقنا طويلاً إلى أن يقضّ فيروسٌ آخر، ربّما، مضاجعنا. أدمغة المراهقين، العصيّة على الفهم في كثير من مفاصل تطوّرها، هي من ضحاياها. وهذه مناسبةٌ للغوص في عالَم الأدمغة تلك.

خلال فعاليات المؤتمر السنوي لجمعية عِلم الأعصاب في واشنطن، قبل أيام، أشارت أبحاث أوّلية إلى تغييرٍ أحدثته الجائحة في أدمغة المراهقين. طبعاً، لم يمرّ وقت كافٍ لتجميع قاعدة بيانات واسعة. لكنّ التداعيات خوّلت الباحثين مراقبة تأثير ذلك الحدث غير الاعتيادي على أدمغة هؤلاء بالتحديد.

إجراءات الحجر والعزلة، كما القلق واضطراب الروتين اليومي، عمّقت من وقع الصدمة على حياة المراهقين. فثمّة ما يدلَل على خللٍ في النموّ الطبيعي لأدمغتهم وتسارُع شيخوختها. إذ لحظت نتائج اختبارات أجراها فريق من معهد التعلّم وعلوم الدماغ بجامعة واشنطن، وعُرضت في المؤتمر، ترقّقاً فوق العادة في القشرة الدماغية لدى مجموعة من 124 مراهقاً – تتراوح أعمارهم بين 9 و17 عاماً - جرى تتبُّعهم قبل الجائحة وبعد رفْع الحجر.

يعتقد العلماء أنّ ترقّق القشرة، كأحد سمات التوتّر، يؤثّر على المرونة العصبية. كما أنّ مرحلة المراهقة تشهد خضوع دوائر الدماغ لاضطرابات وتغيّرات أساسية في العمليات النفسية والعاطفية والاجتماعية. لذا ثمّة سعيٌ لتحديد أمرين: تأثّر اللدونة - وهي خاصية ميكانيكية من خصائص المادة تعكس قابليّتها للتشوّه بفعل الإجهاد - بالترقّق؛ وتأثير الأخير على وظائف اللغة والإدراك.

أُخذت قياسات التصوير العصبي لأدمغة المشاركين في الاختبار سنة 2018. وقورِن مقدار الترقّق مع قياسات أخرى سنة 2021 عبر نمذجةٍ حاسوبيةٍ لما يمكن توقّعه بعد مرور ثلاث سنوات على القياسات الأولى. وقد أظهر النموذج تسارعاً في نمط الترقّق، لا سيّما لدى المراهقات، توازياً مع تفشّي الجائحة.

دراسة أخرى، عُرضت في المؤتمر لفريق من كليّة الطبّ بجامعة هارفرد، فحصت أدمغة 1414 مراهقاً بتقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي عبر قياس تدفّق الدم كمؤشّر على نشاط خلايا الدماغ. وسجّلت النتائج كيفية تفاعُل مناطق معيّنة منه، مثل قشرة الفص الجبهي واللوزة الدماغية، مع بعضها البعض. ثم جرى تقييم متانة الاتصال في الدوائر العصبية ومدى كفاءة الأخيرة في معالجة المعلومات. فتبيّن أنّ الدوائر الأكثر هشاشة تنبّأت بمستويات أعلى من الحزن المبلَّغ عنه وبأوقات عصيبة مرّ بها المراهقون لدى أخذ القياسات في 2020 و2021 – أي في ذروة الجائحة.

البيانات التي شُرّحت في المؤتمر تخدم تطوير نماذج توقُّع للنتائج المستقبلية، بما فيها القدرة على التكيّف مع التوتّر والاكتئاب، بحسب الباحثين. لكن بمعزل عن الجائحة، ووفقاً لعِلم الأعصاب، تتميّز مرحلة المراهقة بالنضوج التدريجي للوظيفة التنفيذية - وهي المهارات المعرفية الكامنة وراء القدرة على التخطيط، التركيز، اتّخاذ القرارات، التنقّل بسلاسة بين المهام، ومقاومة عوامل التشتيت. وهذا ما تناولته دراسة منفصلة نُشرت مؤخّراً في مجلة Nature Communications وكشفت كيفية نضوج القدرات المعرفية بين سنّ 18 و20 عاماً، ليستمرّ الدماغ في التغيّر بعدها لفترة طويلة.

أنشأ فريق من جامعة مينيسوتا قاعدة بيانات ضخمة بناء على نتائج أربع دراسات مستقلّة لأداء ما يقارِب 10800 فرد تتراوح أعمارهم بين 8 و35 عاماً في 23 مقياساً مختلفاً للوظيفة التنفيذية. وتمكّنوا تالياً من رسم مخطّط نضوجها خلال المراهقة، حيث أظهر تحليل البيانات ديناميّة نضوج مشترَكة لدى الجنسين. وبرز تحسُّن الأداء في معظم المهام مع التقدّم بالعمر، كما يلي: انفجار سريع في تطوّر الوظيفة التنفيذية في أواخر مرحلة الطفولة إلى منتصف المراهقة (10-15 عاماً)؛ تحسينات أكثر محدوديّة، لكن مهمّة، خلال منتصف المراهقة (15-18 عاماً)؛ واستقرار الأداء في جميع المقاييس على مستوى البالغين ممّن أعمارهم بين 18 و20 عاماً.

تشكّل النتائج دليلاً على كون المراهقة مرحلة انتقالية متميّزة يصل خلالها الأداء التنفيذي المحدَّد الهدف إلى مرحلة النضوج. وهنا الأهم: في حين تعتمد الوظيفة التنفيذية أساساً على قشرة الفص الجبهي طيلة مراحل المراهقة، إلّا أن نضوجها – أي القشرة - يتواصل حتى العقد الثالث من العمر. وهكذا، يتوقّع الباحثون أن يكون لنتائج الدراسة أثرٌ ليس فقط على المعالجين النفسيّين وعلماء الأعصاب، بل على الأهل والمدرّسين - وربما على الأنظمة القضائية في معرض تحديد معالم فترة المراهقة - أيضاً.

لماذا الأنظمة القضائية؟ ننطلق من أن التطوّرات التي تشهدها قشرة الفص الجبهي ومناطق دماغية أخرى تتواصل – تدريجياً وبوتائر مختلفة – أقلّه حتى منتصف العشرينات من العمر. فالعلماء يميلون للاعتقاد بعدم وجود فاصلٍ بين الطفولة والبلوغ، بل مسار تطوّريّ يمتد لأكثر من 25 عاماً. ومن شأن ذلك أن يولّد تساؤلات أخلاقية حيال المنظار الذي تطلّ من خلاله القوانين الجنائية على معاقَبة المرتكِبين في أواخر سنّ المراهقة وأوائل العشرينات من عمرهم.

وهذه بعض الحجج المسانِدة. فتطوّر قشرة الفص الجبهي هو أحد أركان المسار التطوّريّ المذكور. ونعطف عليه كون القشرة مسرحاً للتفاعلات الاجتماعية المؤثّرة على تنظيم العواطف، والتحكّم بالسلوك المتهوّر، وتقييم المخاطر. ناهيك بالمُخيخ ودوره على صعيد النضوج المعرفي كانعكاس للبيئة المحيطة بالفرد، حيث تدخل نوعية الطفولة المُعاشة على الخط كعاملٍ مساهمٍ في تشكيل علامات التطوّر ذاك.

هنا ثمة ما يدفع للتساؤل عن أحقيّة معامَلة المرتكِبين الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و25 عاماً، من زاوية القانون بإزاء ارتكابٍ ما، كمِثل من يتخطّون الثلاثين من العمر. وهو تساؤلٌ جدليّ ويقبل الأخذ والردّ على ضوء التحوّل الدقيق الذي يختبره الفرد بين الطفولة والبلوغ. فهل نشهد قريباً إعادة نظرٍ ما، على الأقل، بأنظمة العدالة لتصبح أكثر اتّساقاً مع الخلاصات العِلمية المستجدّة؟